حالة من الترقب تنتاب الموقف فيما يخص قرض صندوق النقد الدولي لمصر، فبعد الحديث عن قرض بقيمة 4.8 مليار دولار، أعلن الصندوق أنه لا يمانع من منح مصر مساعدة عاجلة "قرض سريع" بنحو 750 مليون دولار، مع استمرار تفاوض الطرفين حول البرنامج الأصلي الذي تحصل مصر بموجبه على القرض المقدر بـ 4.8 مليار دولار.
إلا أن حكومة مصر رفضت هذا العرض من قبل صندوق النقد على لسان وزير ماليتها المرسى حجازى والمتحدث باسم مجلس الوزراء السفير علاء الحديدى، وأصرت على أن برنامجها المقدم للصندوق يفي لحصولها على القرض المطلوب، وأن الحكومة تنتظر نتائج التفاوض مع بعثة صندوق النقد الدولي المتواجدة حاليا بالقاهرة.
وكانت بعثة من صندوق النقد الدولي قد وصلت إلى القاهرة ليل أمس السبت لإجراء محادثات مع الحكومة المصرية بشأن قرض قيمته 4.8 مليار دولار.
ويجري وفد الصندوق برئاسة مسعود أحمد مدير شؤون الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بالصندوق واندرياس بور المدير التنفيذي للصندوق مباحثات على مدى يومين مع رئيس الوزراء المصري هشام قنديل ووزراء المجموعة الاقتصادية حول البرنامج الاقتصادي المعدل الذي وضعته الحكومة المصرية.
والسؤال المطروح هنا : ما هي الأسباب التي أدت إلى هذا الموقف الذي يمكن وصفه بالضبابي حيث الرفض لقرض صندوق النقد الدولى ثم العدول عن القرار بل والسعى الحثيث نحو الحصول عليه؟، وما هي إمكانية حصول مصر على قرض الصندوق في ظل الظروف السياسية التي تمر بها؟، خاصة وأن أعمال العنف لم تتوقف بعد منذ أن بدأت في 23 نوفمبر 2012 ..صحيح أن هذه الاعمال تراجعت ولكن لم تتوقف بشكل نهائي .
رصيد سلبي
لدى المصريين رصيد سلبي تجاه صندوق النقد الدولي، بسبب تجربة الاصلاح الاقتصادي التي طبقت في بداية تسعينيات القرن الماضي، ففي ظل أجندة الصندوق آنذاك تم تطبيق برنامج الخصخصة الذي أخرج ألاف العمال المصريين للمعاش المبكر، فضلًا غن الفساد الذي انضوت عليه عملية الخصخصة.
وفي ظل هذا البرنامج الذى طبقته حكومة عاطف صدقى تم تحرير سعرى الصرف والفائدة، وكذلك تحرير التجارة الخارجية، وبدأت تظهر تداعيات سلبية على الصعيد الاجتماعي في مصر جراء تطبيق حزمة الاصلاحات التي فرضتها أجندة صندوق النقد على مصر آنذاك.
وفي ضوء هذا البرنامج أيضًا تم منح القطاع الخاص دورا أكبر في إدارة النشاط الاقتصادي، إلا أنه لم يكن عند حسن ظن المصريين، حيث ركز القطاع على الأنشطة التي تدر عليه الربح السريع، ولم يعتن بالتنمية، ومارست شريحة كبيرة من القطاع الخاص أنشطة المضاربة على نطاق واسع في مجالات الأراضي والعملات الأجنبية والبورصة، مما كرس لأن يكون الاقتصاد المصري ريعًا بشكل رئيسى.
ناهيك عن الشحن النفسي الذي مورس من قبل تيارات المعارضة المصرية قبل ثورة 25 يناير ضد صندوق النقد، وبخاصة من قبل التيارات اليسارية، فارتبط صندوق النقد الدولي بتجربته السابقة لدى المصريين بأن تدخله يعني مزيدا من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، التي لا قبل لهم بها.
تجربة ما بعد الثورة
منذ سقوط نظام مبارك في 12 فبراير 2011، أعلنت كافة المؤسسات الدولية عن دعمها للثورة المصرية، ومن بين هذه المؤسسات صندوق النقد الدولي، إلا أن وزير المالية في ذلك الوقت أعلن أن مصر ليست بحاجة إلى قرض صندوق النقد الدولي.
إلا أنه في مايو 2011 أُعلن عن مفاوضات بين صندوق النقد والحكومة المصرية للحصول على قرض بقيمة 3.2 مليار دولار، واللافت للنظر ان المفاوضات كانت تتم بين الصندوق ونفس الوزير الذي أعلن من قبل عدم حاجة مصر لقروض صندوق النقد.
وانتهت هذه الجولة برفض المجلس العسكري ،الذي كان يدير المرحلة الانتقالية لاستكمال المفاوضات ، بحجة أنه لا يرغب في زيادة أعباء الديون الخارجية لمصر، والبعض رأى أن الرفض كان بسبب شروط وضعت من قبل الصندوق تمس السيادة المصرية.
وعندما جاءت حكومة كمال الجنزوري حرصت بدورها على اتمام مفاوضات قرض صندوق النقد الدولي، ولكن عادة ما كان الصندوق يشترط وجود حالة من التوافق السياسي لمنح مصر القرض، وهو ما لم يتحقق في ظل رفض بعض الأحزاب على القرض، مثل أحزاب الحرية والعدالة التابع لجماعة الاخوان، والنور السلفى، وأحزاب اليسار.
وعقب وصول د. محمد مرسي لسدة الحكم في مطلع يوليو 2012، كانت كريستين لاجارد رئيسة صندوق النقد الدولي من أوائل المسئولين الدوليين الذين التقوا بالرئيس المصرى، وأعلنت عن استئناف المفاوضات بشأن القرض. وفي 20 نوفمبر 2012 أعلن عن توقيع الاتفاق المبدئي بين مصر وصندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4.8 مليار دولار.
إلا أن قوانين الضرائب التي صدرت في 6 ديسمبر 2012 بقرار رئاسي أحدثت حالة من البلبلة السياسية في الشارع، مما اضطرت معه الحكومة المصرية إلى تأجيل العمل بهذه القوانين، والطلب من صندوق النقد بوقف المفاوضات لحين الانتهاء من التصويت على الدستور.
ومنذ ذلك التاريخ والمفاوضات لا تراوح مكانها، بين تصريحات من الحكومة المصرية والصندوق عن استعداد كل منهما لإنهاء مفاوضات القرض ولكن دون حسم، بتحديد موعد لذلك، وكانت تصريحات لصندوق النقد قد صدرت غير مرة بأن الموافقة على منح مصر القرض مشروطة بوجود توافق سياسي في مصر، وهو الأمر الصعب حدوثه في ظل المناخ السياسي الذي تعيشه مصر الآن.
التوافق المستحيل
بإمكان صندوق النقد أن يعلن أنه سوف يقدم قرضه لمصر بعد انتخابات مجلس النواب ووجود حكومة وليدة لهذه الانتخابات، أما مسألة التوافق السياسي في مصر، فهي صعبة المنال في هذا التوقيت بالذات.
فأحزاب المعارضة تنظر إلى الأمر على أنه نقطة ضعف للرئيس مرسى والحكومة التي شكلها، وعليها أن تستكمل خطوات إضعاف الرئيس في المجال الاقتصادي حتى تهوى شعبيته في الشارع ،وبالتالي لا يحصل حزبه على الأغلبية في انتخابات مجلس النواب القادمة.
وحتى لو سلمنا بأن بعض الأحزاب ستكون بعيدة عن فكرة إضعاف الرئيس والحكومة الحالية، فإن لدينا أحزاب اليسار التي ترى أن الصندوق مجرد أحد أدوات الرأسمالية العالمية التي تريد أن تسيطر على مقدرات الاقتصاد المصري، وأن لديها بدائل لقرض الصندوق من خلال الموارد المحلية، وهي لن توفق على حصول مصر على قرض الصندوق بأية حال من الأحوال.
ولكن على صعيد مجتمع الأعمال، فهناك دعما كاملا لحصول مصر على قرض الصندوق تحت مظلة أية حكومة، ويرون أن في قرض الصندوق مخرج لأزمة مصر التمويلية، إذ أن التوقيع على قرض الصندوق سيتيح لمصر الحصول على حزمة تمويلية تصل لنحو 14.5 مليار دولار، ومن شأن ضخ هذه المبالغ أن تحدث حراكا قويا في بنية الاقتصاد المصري.
ويؤيد رأي رجال الأعمال بعض الاقتصاديين الليبراليين، والمحسوبين على مدرسة المؤسسات الدولية، حيث كانوا من العاملين بها في فترات سابقة.
هل إلى القرض من سبيل؟
الملاحظ أن ما تعانيه مصر الآن من أزمة تمويلية يرجع بالدرجة الأولى إلى الإدارة غير الناجحة لمجريات الاقتصاد المصري عقب نجاح ثورة 25 يناير، إذ كان الأمر يتطلب وجود إجراءات استثنائية، تتعلق بسعر الصرف وسياسة الواردات، ومواجهة الفساد، واتخاذ خطوات سريعة في إصدار تشريعات من شأنها أن تستعيد أموال مصر المنهوبة في الداخل والخارج.
ولكن ما حدث عكس ذلك تمامًا وتم التصرف وكأن مصر لا تعاني أزمة، وأنها لا تمر بظروف استثنائية، فتم استنزاف احتياطي النقد الأجنبي ليصل إلى 13.5 مليار دولار في نهاية فبراير 2013، وزاد العجز بميزان المدفوعات نتيجة زيادة الواردات بنحو 19 مليار دولار على مدار عامي 2011 و2012.
ويبقى الحل الممكن، ليس فقط في الحصول على قرض صندوق النقد الدولي، ولكن في إدارة حقيقية لإصلاح الاقتصاد المصري، وأول مراحل هذه الإدارة الناجحة إعلان المجتمع بحقيقة الوضع المالي في مصر، وإظهار العجز المالي، والتداعيات الاقتصادية السلبية المترتبة على هذا العجز.
ومع تقديم خطة لترشيد الإنفاق العام، تظهر ملامحها الأولى على مؤسسة الرئاسة والوزراء، ومستشاريهم، وكبار موظفي الدولة، ومن ثم باقي الجهاز الإداري للدولة. وعرض الإجراءات المتفق عليها مع الصندوق بشفافية، وما سترتب عليها من أعباء معيشية، وطرق مساندة الفئات الضعيفة أو الفقيرة في مصر.
على أن يكون في نفس الوقت هناك خطوط اتصال مع الأحزاب السياسية للاتفاق على البرنامج الإصلاحي، والوصول لاتفاق لوقف العنف بالشارع المصري، وما يترتب عليها من سلبيات اقتصادية، أولها الصورة السيئة التي تقدم للخارج عن السياحة في مصر، وافتقاد مصر للأمن في الشارع.
الدعم الخارجي
من المسلم به أن دعم أمريكا لحصول أحد الدول على قرض الصندوق من شأنها أن يسهل تلك المهمة، وهو ما يلاحظ من مساندة واشنطن لحصول القاهرة على قرض صندوق النقد الدولي، بل كانت نصيحة العديد من المسئولين الأمريكيين الذين زاروا مصر مؤخرا أن طالبوا حكومة مصر ،عبر مؤتمراتهم الصحفية ، بأن تسعى لإنهاء مفاوضات صندوق النقد الدولي.
وليس هذا فحسب بل أُعلن منذ أيام قليلة عن منح أمريكا مصر مبلغ 250 مليون دولار ، منها نحو 195 مليون لدعم عجز الموازنة. وقد تلعب الخارجية المصرية خلال الفترة القادمة على دعم دول أخرى لإنهاء مفاوضات مصر مع الصندوق وحصولها على القرض الذى طلبته.
إلا أن ذلك كله يتعلق بمرحلة أو قضية مهمة في الداخل وهي نتيجة انتخابات مجلس النواب، فهل ستتم هذه الانتخابات في القريب العاجل.
وهنا يجب النظر بجدية لمسألة الوقت لأنها ليست ترفًا بل من الضرورة أن تحصل مصر على القرض في اقرب وقت، بينما الخلاف السياسي والإجراءات القضائية من شأنها أن تؤجل الانتخابات البرلمانية، ومن هنا تزداد الأمور صعوبة على الحكومة المصرية.
وإذا افترضنا اتمام الانتخابات في وقت قريب، فما هي احتمالات أن يستحوذ حزب الحرية والعدالة أو غيره من الاحزاب التي من شأنها أن تقبل التفاوض والحصول على القرض على الأغلبية البرلمانية.
إذن القضية في مجملها في ملعب السياسة، وبإمكان الساسة الإسراع أو تعطيل قرض الصندوق لمصر.