غير مرة، أعلنت شركات أجنبية عن توقف إنتاجها بمصر، أو عزمها الرحيل من السوق المحلية، بسبب عجز البنوك المصرية عن تلبية احتياجاتها من الدولار للوفاء بمستلزمات إنتاجها المستوردة من الخارج.
وكانت آخر هذه الشركات، جنرال موتورز، التي أعلنت توقف نشاطها الإنتاجي مؤقتاً، بسبب عدم توفير البنوك للدولار.
وتمر مصر بأزمة تمويلية بشكل عام، وعجز واضح في مواردها من العملات الصعبة، بعدما تأثرت مواردها الدولارية سلبياً، نتيجة تراجع عوائد السياحة بنهاية 2015 إلى 6.5 مليار دولار، بينما كانت في 2012/2013 حوالي 9.7 مليار دولار.
كما شهدت عوائد المرور بقناة السويس تراجعاً في إيراداتها بنهاية 2015، بنحو 290 مليون دولار، مقارنة بما تحقق في نهاية 2014.
ولم تعد الصادرات البترولية مصدراً لجلب الدولار في مصر، بعد أن تحول الميزان النفطي إلى عجز منذ فترة، فمع نهاية 2014/2015 بلغ العجز في الميزان البترولي 3.6 مليار دولار.
وتضغط أزمة الدولار بقوة على مقدرات الاقتصاد المصري، فحسب بيانات البنك المركزي، بلغ عجز ميزان المدفوعات بنهاية الربع الأول من عام 2015/2016 نحو 3.7 مليار دولار، ويتوقع أن يستمر هذا العجز، بسبب الاختلال الهيكلي في العلاقات الاقتصادية الخارجية بمصر ليصل بنهاية يونيو 2016 حوالي 15 مليار دولار.
والرسالة التي يبعثها سلوك الشركات الأجنبية العاملة بمصر، شديدة السلبية، حيث أنها تعني أن مناخ الاستثمار بمصر غير موات، وأنها غير قادرة على تلبية احتياجات هذه الشركات، فضلاً عما تواجهها من صعوبة في تحويل أرباحها للخارج بالعملة الصعبة، مما يضيع على مصر فرصة جذب المزيد من هذه الاستثمارات الفترة القادمة.
ورداً على هذا السلوك، خرج محافظ البنك المركزي مؤخراً، عبر وسائل الإعلام ليبين ما حققته شركة جنرال موتورز من أرباح في مصر خلال الثلاثين عاماً الماضية، وأنها حصلت على تمويل من البنوك المصرية بنحو 1.6 مليار جنيه، في حين أن رأس مالها المدفوع 200 مليون جنيه فقط، وأن أرباحها في 2014 فقط بلغت 420 مليون جنيه مصري، أي أنها ربحت في عام واحد أكثر من ضعف رأسمالها المدفوع.
إلا أن الأمر يتطلب إعادة النظر في وجود الشركات الأجنبية بالسوق المصرية، فهذه الشركات بشكل عام كانت عبئاً على الاقتصاد المصري، ولم تكن عوناً له على الخروج من مضمار الدول النامية، فهذه الشركات استهدفت السوق المحلية، ولم تستهدف الصادرات كما فعلت في دول جنوب شرق آسيا.
ولم تستجلب الشركات الأجنبية بمصر، تكنولوجيا جديدة، فهي إما تقوم بعمليات تجميع بالنسبة للشركات الصناعية، أو تستجلب خطوط الإنتاج وقطع الغيار من الخارج، فيما يتعلق بالشركات التي تنتج سلعاً استهلاكية للسوق المصرية، كما هو الحال في مجال الصناعات الغذائية والمنظفات.
ولم تساعد الشركات الأجنبية بمصر، على جلب أموال من الخارج للاقتصاد المصري، وما ذكره محافظ البنك المركزي عن تجربة جنرال موتورز خير دليل.
غياب الأجندة وطنية
في الأصل أن الاستثمارات الأجنبية تأتي لتساعد اقتصاديات الدول المضيفة، ولا تكون عبئاً عليها، ولكن الحالة المصرية حصدت نتيجة عكسية بسبب غياب الأجندة الوطنية، التي تحدد أولويات عمل هذه الشركات، والقطاعات التي تمثل جوانب عجز وقصور للاستثمارات المحلية.
وحسب بينات التقرير المالي لوزارة المالية، فإن الاستثمارات الأجنبية المباشرة تمثل نسبة شديدة الضآلة، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، وذلك على مدار السنوات الخمسة الماضية.
ففي عام 2010/2011 مثلت هذه الاستثمارات نسبة 0.9% من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، ووصلت إلى 1.9% في عام 2014/2015.
ولا يقتصر الأمر على تدني هذه النسبة فحسب، ولكن كذلك على المجالات التي تستثمر فيها هذه الأموال الأجنبية، ومدى دفعها لمشروع التنمية بمصر، فوفق بيانات البنك المركزي المصري، فإن قطاع البترول يستحوذ على 60.4% من هذه الاستثمارات، بينما قطاع الصناعة يحصل على النسبة الأدنى 2.1%، وقطاع التشييد والبناء 6%، والقطاع العقاري 6.9%.
أي أن المردود على التشغيل وزيادة كفاءة الناتج المحلي بمصر محدود، نتيجة مساهمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وهو ما يفرض على صانع القرار بمصر مراجعة وجود هذه الاستثمارات في السوق المصرية.
فمتطلبات التنمية الآن، تفرض على صانع السياسة الاقتصادية ومتخذ القرار، أن يركز على الاستثمارات كثيفة استخدام العمل، لكي يتم استيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل، والذين يقدر عددهم بنحو 850 ألفاً سنوياً، وتخفيف حدة البطالة السافرة بمصر، والتي يقدر معدلها بحدود 12.8% بنهاية الربع الثاني عام 2015.
فقدان مزايا الاستثمار
على ما يبدو، أن المعايير التي تستند إليها الشركات الأجنبية بمصر، بشأن قراراتها بتعليق أعمالها مؤقتاً، أو مغادرة السوق المصرية، ترجع إلى فقدان مصر للعديد من المزايا التي كانت تُمنح للاستثمارات الأجنبية، وعلى رأسها الطاقة الرخيصة.
واستفادت هذه الشركات بشكل واضح بحصولها على الطاقة المدعومة خلال العقود الماضية، فقد كانت الموازنة المصرية تتحمل في السنوات الأخيرة نحو 120 مليار جنيه مصري كدعم للطاقة، كانت الصناعة تستفيد بالجانب الأكبر من هذا الدعم، وبخاصة الصناعات كثيفة استخدام الطاقة، مثل الأسمنت والأسمدة التي أصبحت حكراً على الشركات الأجنبية.
لم تحفظ الشركات الأجنبية لمصر أنها لم تشترط عليها تدبير احتياجاتها من النقد الأجنبي طوال الفترة الماضية، أو دفع كامل رؤوس أموالها مرة واحدة، أو تمنعها من ميزة الاقتراض من السوق المصرفية المحلية، ومع مرور مصر بأزمة الدولار الخانقة، شعرت الشركات الأجنبية، بأن مصر فقدت ميزة الدفع بالتمويل المحلي لصالح الشركات الأجنبية.
أما أخر هذه المزايا فهي استشعار هذه الشركات، بأن مصر ستمر بأزمة مياه خانقة خلال الأيام القادمة، مما يجعلها ترفع من تكلفة الحصول على المياه، وهو ما كشف عنه مؤخراً، وبخاصة بعد أزمة سد النهضة الذي ستؤثر على حصة مصر من المياه.
فاتورة باهضة
من خلال بيانات ميزان المدفوعات المصري، الواردة في التقرير المالي لوزارة المالية في ديسمبر 2015، نجد أن مدفوعات مصر عن الاستثمار تصل إلى 6.2 مليار دولار، منها 631 مليون دولار فوائد، و854 مليون دولار مدفوعات حكومية، و5.3 مليار دولار مدفوعات أخرى.
أي أن الاستثمار الأجنبي سواء كان مباشراً أو غير مباشر، يكبد مصر فاتورة كبيرة، في ظل أزمتها المالية الحالية، وسيظل كذلك على الأقل في الأجلين القصير والمتوسط، ويخشى أن يمتد للأجل الطويل في ظل السياسات الاقتصادية والمالية التي تتبعها الحكومة المصرية، بشأن الاستثمار الأجنبي، أو الاقتراض من الخارج.