بعد وقوع الأزمة المالية العالمية في سبتمبر الماضي، أشارت أصابع الاتهام إلى عدم ملائمة الرأسمالية لواقع اقتصادي عالمي مستقر، وفي إطار معالجة الآثار السلبية المتوالية منذ ذاك التاريخ وحتى الآن اتجهت البلدان الرأسمالية للأخذ ببعض القواعد المتنافية مع مبادئ الرأسمالية مثل تدخل الدولة في ملكية المؤسسات المالية والإنتاجية.
كما تنادت أصوات هنا وهناك للأخذ بمبادئ الاقتصاد الإسلامي لتأمين أفضل لأداء الواقع الاقتصادي العالمي، حيث إن الاقتصاد الإسلامي يدعو إلى المشاركة ويحرم الربا ويمنع بيع الديون أو بيع مالا يملكه الأشخاص أو الهيئات، وهو ما أدى إلى نتيجة مفادها أن البنوك الإسلامية كانت بمنأى عن الآثار السلبية للأزمة المالية.
ولكن الطرح الأخير لم يرق لأصحاب المذهب الاشتراكي، الذين اعتبروا وقوع الأزمة الرأسمالية بمثابة لحظة انتصار تاريخية تساعدهم مرة أخرى للنهوض وإزالة التراب عن إرثهم الذي اعتقد العالم أنه لن يرى النور، فأخذوا يمجدون دور الدولة في الاقتصاد ويعددون سلبيات الليبرالية المتوحشة، وفي نفس الوقت لا يسلمون بمشاركة الطرح الإسلامي كبديل للرأسمالية، ولا يرضون بدلاً عن الاشتراكية.
وكانت العولمة خلال العقدين الماضيين قد نجحت في فرض نفسها كواقع برجماتي، وتغيب الأيدلوجيا في الممارسات الاقتصادية، وكان الكثيرون من أصحاب المذهب الاشتراكي يتعاملون مع هذا الواقع من خلال المطالبة بتخفيف آثاره السلبية وبخاصة في الواقع الاجتماعي، ولكن الأزمة المالية العالمية فتحت المجال مجددًا لجدل الأيدلوجيا، وبخاصة بين الرؤيتين الإسلامية والاشتراكية، باعتبار كل منهما يقدم نفسه كبديل للرأسمالية المنهارة.
ونحاول في هذه السطور تناول حجج الاشتراكيين حول الطرح الإسلامي وبخاصة البنوك الإسلامية.
تفاوتت مواقف الاشتراكيين حول أداء البنوك الإسلامية في الأزمة المالية، وكذلك موقفهم من الطرح الاقتصادي الإسلامي برمته كبديل للرأسمالية؛ فالأستاذ/ أحمد النجار -الباحث الاقتصادي بمركز دراسات الأهرام- يرى أن الطرح الإسلامي مرفوض بالكلية وأن الدين ينبغي عدم الزج به في المجال الاقتصادي.
ويدلل على فشل محاولة الزج بالدين في المجال الاقتصادي، بما حدث في مصر من خلال أداء شركات توظيف الأموال غير المرضي، والذي اعتمد على المضاربات وسوء إدارة المدخرات، وكذلك مضاربات البنوك الإسلامية في الوقت الحالي في الذهب والبورصات بالسوق الدولية، وعاب على بعض الأكاديميين تناولهم لموضوع الاقتصاد الإسلامي، أو الاقتصاد الديني، كما سماه في موضع آخر بمقاله بجريدة الأهرام.
وهناك من رأى أن الإسلام يمتلك مجموعة من القواعد الاجتماعية العادلة، مثل الدكتور جودة عبد الخالق أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، ولكنه عاب على ممارسة البنوك الإسلامية أنها لم تؤدِّّ إلى تغيير اجتماعي إيجابي في المجتمعات التي تواجدت بها، واستشهد بتجربته الشخصية، حيث أمضى ثلاث سنوات في دراسة التجربة السودانية، التي يتوافر بها نظام مصرفي يعتمد على نظام إسلامي بالكامل، وخلص إلى تدني العوائد الاجتماعية على المجتمع السوداني، وأن التجربة تميزت بارتفاع تكلفة التمويل مقارنة بغيرها .
إلا أن عبد الخالق في موضع آخر حمل على تجربة البنوك الإسلامية متهمًا إياها بأنها رافد خليجي، وأن من يؤيدونها من رجال الفتوى وأساتذة الجامعات مجرد مرتزقة يجنون الأموال من هذه البنوك، وأنه لا توجد أي فروق بين البنوك الإسلامية وغيرها من البنوك.
د. محمود عبد الفضيل -أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة- رأى أن الاقتصاد الإسلامي حظي منذ فترة بوجود دراسات أكاديمية في الغرب، وأن حجم المصارف الإسلامية بالمقارنة بالجهاز المصرفي العالمي، ضئيل للغاية، وبالتالي فهو غير مؤثر، ولا يعني هذا أن أداء البنوك الإسلامية كان بمنأى عن خسائر الأزمة المالية العالمية، فمعظم أعمال البنوك الإسلامية تعتمد على المرابحة في العقارات كما أنها تمتلك محافظ في البورصات العالمية، وكلا القطاعين مني بخسائر كبيرة، فكيف تنجو هذه البنوك من خسائر آثار الأزمة المالية السلبية، ومن جهة أخرى فالمصارف الإسلامية جزء من النظام المصرفي العالمي، وتضرر النظام المصرفي العالمي ينعكس بلا شك على النظام المصرفي الإسلامي .
وهناك وجهة نظر أخرى تعترض على المنهج، لتعارضه مع النهج الماركسي الذي وصف الأزمة المالية العالمية على أنها بسبب صراع الرأسماليين أنفسهم، لتلافي انخفاض أرباح نشاطهم الاقتصادي واختلال العلاقة بين العمل ورأس المال في المعادلة الاقتصادية، وصاحب هذا الرأي د. أليكس كلينيكوس -مدير مركز الدراسات الأوروبية بالكلية الملكية بلندن، وعن رأيه حول مدى تأثر البنوك الإسلامية في الغرب بالأزمة المالية، قال إنه ليس خبيرا في شئون البنوك الإسلامية وتجربتها، ولكن إذا كان القرآن يحرم الربا فإنه لم يحرم الربح، وتعكس هذه الإجابة وجهة النظر الماركسية لوسائل الإنتاج وحصرها فقط في عنصر واحد وهو العمل، وأن رأس المال مجرد طفيلي يجني الأرباح على حساب العمال.
توجد مجموعة من الملاحظات على الطرح الاشتراكي وموقفه من البديل الإسلامي يمكن رصدها فيما يلي:
هناك إصرار على خضوع علاقة الإسلام بالاقتصاد، لمعايير التجربة الأوروبية في علاقة الدين بالحياة بشكل عام، وعلاقة الدين بالعلم بشكل خاص، على الرغم من أن المعروف أن للإسلام تجربة خاصة ومتفردة، من خلال نظرته الشاملة للحياة وارتباطها بالآخرة، وعدم وجود هذا الفصل الذي كرسته التجربة العلمانية الغربية، فالمال في الإسلام له دوره ومجالاته من حيث طرق الحصول عليه وطرق إنفاقه، وطرق توظيفه وتوزيعه.
حصر التجربة الإسلامية في بعض سلبيات التجربة المصرية في توظيف الأموال، أو وجود بعض أخطاء البنوك الإسلامية، ظلم بين، وكانت النظرة العلمية تحتم النظر إلى أصول التجربة الإسلامية في إطارها الاقتصادي والمصرفي، من أطر عامة تتمثل في مقاصد الشريعة (حفظ النفس، والعقل، والدين، والعرض، والمال) أو تلك الحقوق الاقتصادية للإنسان من دور المجتمع في توفير الكفايات الخمس (المأكل، المشرب، الملبس، المأوى، والدابة)، فضلاً عن ضوابط الإسلام للإنتاج والاستهلاك، وتحريم الربا والاحتكار والاكتناز، والغش والغرر والتدليس وغيرها من الأخلاق الإسلامية التي توجد بيئة اقتصادية نظيفة، تحقق التنمية وتعين الفرد والمجتمع على أداء رسالة إعمار الأرض.
تجربة البنوك الإسلامية لا تعبر عن فئة محدودة أو نخبة داخل العالم الإسلامي، ولكن أصبحت واقعا معاشا في جنبات الاقتصاديات العربية والإسلامية، بل والأوروبية، ولا ينقصها سوء وجود بيئة معينة على أداء دور تنموي.
معظم التهم التي توجه للبنوك الإسلامية من العزوف عن المشاركة والمضاربة والتركيز على المرابحة، مردود عليها بغياب دولة القانون في معظم بلداننا العربية، حيث مارست البنوك الإسلامية كل صيغ الاستثمار الإسلامية ولكن بعض المتعاملين أساءوا التعامل، فاتجهت البنوك الإسلامية للتركيز على صيغة المرابحة.
لازالت العوامل التي حافظت على خروج البنوك الإسلامية من الأزمة المالية العالمية بأقل خسائر ممكنة، قائمة ولها حجتها ووجهتها الاقتصادية، وهي عدم التعامل بالربا والعمل بقاعدة الغنم بالغرم، عدم الدخول في البيوع الوهمية لبورصات السلع والأسهم والسندات، والتي تعتمد على بيع ما لا يملك الإنسان، وعدم الدخول في دوامة التوريق التي ساهمت بجزء كبير في السقوط في براثن الأزمة المالية، من باب تحريم الإسلام لبيع الديون.
لا زال الاشتراكيون يصرون على مبادئ تتعارض مع الفطرة الإنسانية مثل تجريد رأس المال من دوره في العملية الإنتاجية، وقصر العملية الإنتاجية على العمل فقط.
لازالوا يصرون على فكرة الصراع الطبقي داخل المجتمعات، العمال وأصحاب رءوس الأموال، ويفتقدون للتوازن الذي يطالبون به، ففي الوقت الذي يطالبون فيه بتحجيم الرأسماليين، يطلقون العنان للعمال، ويطالبون بأن يمتلك العمال المؤسسات الاقتصادية، ويديرونها.
نحسب أن رد فعل الاشتراكيين جاء بدوافع أيدلوجية بعيدة عن الدراسة والتأني، وهنا يأتي الدور السلبي للتوظيف السياسي ضد المشروع الإسلامي، باعتباره يكرس غياب الاشتراكية، ويعمل بمعزل عن الرأسمالية، بما يملكه من عوامل استقلال ذاتية.
في الوقت الذي اعتبره البعض أنه فرصة ذهبية للبنوك الإسلامية لعرض بضعتها في المجال الاقتصادي، فإن رد الفعل من قبل البنوك الإسلامية كان ضعيفا، سواء في تقديم البدائل الإسلامية التي يمكن أن يعتمدها النظام المالي أو القطاع العيني، أو على مستوى رد الشبهات ودفع الاتهامات، التي وجهت لتجربة المصارف الإسلامية، ونتصور أن الدور المطلوب من البنوك الإسلامية وتحتمه المرحلة، يتبلور في:
تقديم مواقف مالية تعكس حقائق أداء هذه البنوك في السوق العالمي في مجالات العقارات والبورصات، وصافي مركزها هل هو ربح أم خسارة.
أن تعمل البنوك الإسلامية على تصحيح مسارها، من خلال ما وجه لها من انتقادات من قبل المتخصصين في الاقتصاد الإسلامي قبل غيرهم، من حيث الاعتناء بوجود كوادر مدربة للعاملين بها، تقديم منتجات مصرفية مبتكرة تلبي حاجات العملاء والاقتصاد القومي، وتأهيل العاملين بالرقابة الشرعية بالصورة التي تسمح لهم بالفهم التام لمقتضيات الحياة الاقتصادية، وعدم وجود هذا الفصل القائم بين علماء الشريعة وخبراء الاقتصاد .