أعلن وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم تخفيض قيمة (العملة المحلية) الجنيه، وذلك يوم الأحد الموافق 21 فبراير/شباط 2021، ليصبح سعر الدولار 375 جنيها، مقابل 55 جنيها قبل اتخاذ قرار التعويم، وبذلك ارتفع سعر الدولار أمام الجنيه بنسبة 580%.
وهذا يفتح على السودان مجموعة من التحديات، بسبب ضعف الأداء الاقتصادي، وانكشاف البلاد بشكل كبير في تعاملاته مع العالم الخارجي، وينتظر أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع معدلات التضخم بشكل كبير، وكذلك فرض المزيد من التحديات على المنتجين المحليين، وضعف قدراتهم التنافسية محليا ودوليا، ومن المتوقع كذلك أن يزيد القرار من معدلات الفقر بالبلاد.
ولم يكن مستغربا أن تقبل الحكومة على تعويم عملتها المحلية، في ظل رئيس حكومة يتماهى بشكل كبير مع توجهات المؤسسات المالية الدولية.
وثمة مجموعة من الاستفسارات والأسئلة حول عملية التعويم، ونحاول في هذه السطور التعريف بقضية تعويم العملة، وما يكتنفها من إيجابيات وسلبيات، والإشارة إلى المستفيدين والمتضررين منها
تعويم العملة، هو ترك العملة المحلية لآليات العرض والطلب، دون تدخل من قبل البنك المركزي في تحديد سعرها، سواء في المحيط المحلي أو الخارجي، ولكن هذا المعنى لا وجود له في الواقع، حتى مع العملات المعومة، والمعروفة بالعملات الدولية في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا واليابان وسويسرا على الترتيب (الدولار، اليورو، الجنيه الإسترليني، الين، الفرنك) فهذه البلدان وإن كانت تتم بها التسويات المالية العالمية في الغالب، ويتم تداولها في بورصات النقد الدولية، إلا أن حكوماتها عادة ما تستهدف سعرا معينا يحقق مصالحها الاقتصادية، وتعمل على تثبيته بشكل غير مباشر عبر آليات السياسة النقدية المختلفة
يوجد نوعان من التعويم، الأول الذي أشرنا إليه في تعريف تعويم العملة، وهو التعويم المطلق، والنوع الثاني هو التعويم المدار، أي الذي يتدخل فيه البنك المركزي، لتوجيه سعر الصرف ارتفاعا وانخفاضا، حسبما يراه محققا لمصلحة الاقتصاد القومي.
والتعويم المدار عادة ما تمارسه الدول صاحبة الاقتصاديات القوية، والتي لديها حصة معتبرة من التجارة الدولية، فتتجه لهذا النوع لكي تستهدف زيادة أو خفض الواردات أو الصادرات السلعية.
واستخدم هذا الأمر فيما يعرف بحرب العملات التي شهدها الاقتصاد العالمي بعد الأزمة المالية الدولية لعام 2008، من أجل تعظيم الصادرات وتقليص الواردات، وقد تلجأ إلى التعويم المدار الدول ذات الاقتصاديات الضعيفة أيضا ولكن يكلفها ذلك أعباء مالية واقتصادية كبيرة، وهو ما يتحقق في الحالة المصرية، التي تلجأ لاستثمارات الأجانب في الدين المحلي، من أجل استقرار سعر صرف الجنيه.
تلجأ الدول إلى سياسة تعويم عملتها، في حالة معاناتها من أوضاع مالية واقتصادية غير مستقرة، مما يؤدي إلى جعل حيازة العملات الأجنبية، أحد العوامل المهمة في اضطرابات السوق، حيث تكثر المضاربات، ويخرج أمر سعر صرف العملة عن يد البنك المركزي والجهاز المصرفي، ويكون بيد السوق الموازية أو السوداء.
ويحدث اضطراب سوق العملة نتيجة سوء أداء الدولة في ميزان المدفوعات، حيث تزيد الواردات السلعية عن الصادرات، كما تتأثر موارد النقد الأجنبي سلبيا، من حيث عوائد الصادرات والواردات الخدمية، كما تقل بها تدفقات الاستثمار الأجنبي، وتجد الدولة نفسها مضطرة للاستدانة بمعدلات كبيرة.
من هنا تجد الدولة نفسها أمام التزامات أكبر من طاقتها، في حين أن المتاح من موارد للنقد الأجنبي بالبلاد خارج سيطرتها، وفي يد غير يد البنك المركزي والجهاز المصرفي والمؤسسات المالية، لذلك تلجأ إلى تعويم العملة في إطار برنامج اقتصادي، لمحاولة الوصول إلى حالة من الاستقرار السياسي.
وعرف، من خلال المتابعة والممارسة، أن تعويم العملة المحلية في الاقتصاديات المضطربة يأتي من خلال وصايا صندوق النقد الدولي، أو في إطار ما عرف بأجندة صندوق النقد التي عادة ما تتضمن حزمة من الإجراءات، من بينها تعويم سعر العملة، مع تحرير سعر الفائدة، وتقليل عدد العاملين بالقطاع العام، وتبني برنامج لخصخصة القطاع العام، وتحرير التجارة الخارجية، وفتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية
منذ عام 1971 تخلى العالم عن قاعدة الذهب في تحديد سعر صرف العملات، وأصبحت هناك سلة من المحددات لسعر صرف العملة، أولها رصيد النقد الأجنبي، ورصيد الذهب، وأداء الناتج المحلي الإجمالي، فالدول التي لديها ناتج محلي يتمتع بقيمة مضافة عالية تزيد قيمة عملتها بشكل كبير، حيث يتم الطلب على منتجاتها بالخارج، فيزيد ما لديها من عملات أجنبية، لذلك تسعى البنوك المركزية لتكوين رصيد من النقد الأجنبي والذهب، يساعد على الوصول لسعر صرف متوازن يحافظ على مصالحها الاقتصادية مع الخارج، ويعمل على تنشيط الاقتصاد المحلي، ويحافظ على مقدرات المجتمع من المدخرات والثروة.
وهناك عدة أنواع لسعر الصرف، أولها سعر الصرف الإداري، وهو لا يعتمد على آليات العرض والطلب، ولكن يعتمد على قرار من السلطة النقدية بسعر محدد. والثاني سعر الصرف الحر، وهو على النقيض، حيث يتم تحديد سعر صرف العملة بناء على آليات العرض والطلب ودون تدخل من السلطة النقدية.
والنوع الثالث سعر الصرف المدار، حيث تتدخل السلطة النقدية في تحديد سعر الصرف من خلال آلية السوق المفتوحة، والتي تعني أن السلطة النقدية تدير السوق من خلال تدخلها بيعًا وشراءً للوصول لسعر متوازن ترى أنه يحقق صالح الاقتصاد القومي، فعندما ترى أن سعر الصرف للعملة الأجنبي في صعود، تتدخل بطرح ما لديها من عملة أجنبية لتزيد العرض فينخفض السعر، وإذا رأت أن سعر صرف العملة الأجنبية ينخفض أكثر من سعر التوازن، تتدخل بالشراء لتحافظ على توازن السوق عند السعر المستهدف
هناك عدة دول عربية اعتمدت سياسة تعويم العملة بشكل غير كامل، وهي مصر والمغرب ولبنان والعراق والسودان، ففي مصر حدث التعويم المدار سواء عام 2003 إبان حكومة الدكتور عاطف عبيد في عهد مبارك، أو في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 في ظل حكومة الانقلاب العسكري في إطار اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وتم في لبنان تخفيض قيمة العملة المحلية في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد منذ نهاية عام 2019. وقامت حكومة المغرب في أبريل/نيسان 2020 باتخاذ خطوة مماثلة لما قامت به مصر، من تحرير أو تعويم جزئي في ظل اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وينتظر أن تكون هناك خطوات أخرى في إطار التعويم المدار للعملة المغربية.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2020 قامت الحكومة العراقية بتخفيض قيمة الدينار بنسبة تقترب من 22%، إلا أن الحكومة زعمت أن هذا هو الإجراء الأخير لتخفيض العملة. ومؤخرا اتجهت السودان باتخاذ قرار التعويم المدار أيضا.
الدول تلجأ لسياسة تعويم عملتها في حالة معاناتها من أوضاع مالية واقتصادية غير مستقرة (غيتي إيميجز)
ثمة عدة دول عربية تعاني من حالة عدم استقرار سياسي وأمني، وسوء إدارة اقتصادية، وهو ما يعني اللجوء لصندوق النقد الدولي، الذي سيشترط عليها تحرير سعر العملة، أو التعويم كإحدى أدوات الاصلاح من وجهة نظر صندوق النقد الدولي، وهذه الدول هي سوريا واليمن ولبنان وليبيا. ورغم أن الأخيرة دولة نفطية، إلا أنه من المرشح إذا استقرت بها الأوضاع السياسية، وتم وقف العمليات القتالية، سيكون ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي تخفيض قيمة عملتها وتعويمها، وخاصة أنه قبل اندلاع العمليات العسكرية هناك، أديرت مفاوضات بين الحكومة آنذاك وصندوق النقد الدولي، حول إمكانية الحصول على قرض بقيمة 10 مليارات دولار.
تعويم سعر العملة في ظل الاقتصاديات النامية يعد بمثابة مجازفة غير محسوبة العواقب، وبخاصة إذا تم في دولة ذات نظام سياسي ضعيف، لا يتمتع بالشفافية وإعمال دولة القانون.
ولكن في إطار الأبعاد الاقتصادية، فثمة مجموعة من الإيجابيات يمكن أن تتحقق من عملية تعويم العملة، أولها وأشهرها القضاء على السوق السوداء، لأن المتعاملين يجدون أمامهم سعر صرف واحدا في البنوك والمصارف ولدى كافة المتعاملين في العملات الأجنبية.
والأمر الثاني أن التعويم يساعد في القضاء على ظاهرة سلبية وهي الدولرة، أي اتجاه المواطنين للاحتفاظ بالدولار، أو السعي لشراء الدولار دون الحاجة، ولكن غرضهم الرئيسي هو الحفاظ على مدخراتهم، أو المضاربة على سعره، للحصول على أرباح.
والتعويم يقضي على هذه الظاهرة، مما يساعد على إيجاد طلب وعرض حقيقيين لسعر الصرف، مما يؤدي إلى حالة توازن تساعد على اتخاذ القرار الاقتصادي لدى الشركاء في النشاط الاقتصادي.
وكذلك يساعد التعويم في تضييق الخناق على جرائم غسل الأموال، التي تجد في السوق الموازية أو السوداء لسعر الصرف منفذًا مهمًا لممارسة جرائمها. وفي ظل التعويم، لا يكون التعامل في النقد الأجنبي إلا عبر المنافذ الرسمية، وهو الأمر الذي لا تلجأ إليه عصابات غسل الأموال.
اتخاذ قرار تعويم العملة، في ظل ظروف اقتصادية مضطربة، عادة ما يصاحبه مجموعة من السلبيات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، وأولى هذه السلبيات ارتفاع معدلات التضخم، وسيادة حالة من الركود والترقب للوصول لرصد حقيقي لحركة السوق، لذلك ترتفع معدلات البطالة في الأجل القصير، كما يتضرر كل من المنتجين والمستوردين، بسبب ارتفاع فاتورة الإنتاج والاستيراد، وكذلك يصاب الدائنون بصدمة كبيرة لانخفاض ثرواتهم المتمثلة في الديون المستحقة لهم على الآخرين، وأيضا تتضرر الدولة المدينة للخارج، وترتفع فاتورة سداد فاتورة أعباء ديونها الخارجية، وبخاصة في ظل فقر مواردها من النقد الاجنبي
يأتي في مقدمة الرابحين، من تعويم العملة، من لديهم مدخرات سابقة بالعملات الأجنبية، حيث تتضاعف ثرواتهم، ويعمدون فور حدوث عملية تعويم العملة إلى شراء الأصول، من عقارات أو مصانع أو مزارع أو سيارات، بسبب الثروة التي هبطت عليهم جراء تعويم العملة.
وثاني فئة هي المدينون، وبخاصة أصحاب المديونيات المستحقة للبنوك وللجهات المالية الرسمية، حيث يمكنهم سداد ديونهم بأقل من قيمتها الحقيقة التي حصلوا بها على الديون، ويستطيعون ببيع بعض ما لديهم من أصول أن يسددوا جزءا كبيرا من ديونهم.
والفئة الثالثة هي التجار الكبار، أو ما يطلق عليهم تجار الجملة أو الوكلاء، أو المستوردون الكبار، الذين لديهم مخزون كبير من السلع، حيث يقومون برفع أسعار ما لديهم من مخزون سلعي وفق الأسعار الجديدة بعد التعويم.
والفئة الرابعة هي المنتجون الذين يستهدفون التصدير، ويعتمدون في إنتاجهم على المستلزمات المحلية، بشرط أن يكون لديهم مرونة إنتاجية عالية تلبي الطلب على السلع المحلية، بعد التعويم، حيث يكون المستوردون لسلع الدولة التي تم فيها التعويم متحفزين للاستفادة من ميزة انخفاض قيمة العملة، للحصول على كميات أكبر من السلع بنفس القيمة من العملات الأجنبية التي كان يستوردون بها من قبل.
والفئة الخامسة المستفيدة هي الحكومة، من خلال انخفاض قيمة ديونها المحلية بشكل كبير، مما يخفف الأعباء عن الموازنة العامة للدولة
تتضرر مجموعة من المواطنين، داخل الدولة التي أخذت بسياسة تعويم عملتها، وفي مقدمة هؤلاء أصحاب المدخرات بالعملات المحلية، حيث إن مدخراتهم تقل قيمتها الشرائية بمقدار انخفاض قيمة العملة بعد التعويم، فهم بالفعل يفقدون جزءا مهما من ثرواتهم.
والفئة الثانية هي الدائنون بعملات محلية، حيث إن قيمة ما لديهم من ديون مستحقة لدى الغير تقل قيمتها الحقيقية بعد التعويم، فما يحصلون عليه لا يعوضهم عن القيمة الحقيقية لديونهم التي يستحقونها، لذلك تعتبر الديون لآجال طويلة في هذه الحالة خسارة كبيرة للدائنين.
والفئة الثالثة هي أصحاب السلع التي لا يمكن رفع سعرها بمعدل يساوي قيمة الانخفاض الحادث في قيمة العملة نتيجة التعويم، فمثلا العقارات، كسلعة رأسمالية، من الصعب رفع سعرها بنسبة 100% خلال أيام قليلة، لذلك يتعرض سوق مثل هذه السلع لحالة ركود كبيرة.
والفئة الرابعة هي المستوردون، حيث يجدون أنفسهم أمام فاتورة مرتفعة للسلع التي يريدون استيرادها، ويتضرر معهم المنتجون الذين يعتمدون على مستلزمات إنتاج مستوردة، حيث يضطرون لرفع أسعار سلعهم بمقدار الارتفاع في سعر العملات الأجنبية، مما يؤدي إلى عدم قدرتهم على المنافسة في السوق المحلية، أو السوق الدولية، لذلك تنكمش الأنشطة الصناعية في ظل تعويم العملة، وتنتعش أنشطة التجارة والخدمات.
الفئة الخامسة المتضررة هي الموظفون، وأصحاب الدخول الثابتة، لأن رواتب الموظفين لا يمكن زيادتها بنفس القدر الحاصل في انخفاض قيمة العملة نتيجة التمويل، ومن الصعب أن يقوم صاحب العمل بالحكومة أو القطاع الخاص أن يرفع الرواتب بنسبة 50% أو 100% مثلا، فما بالنا إذا كان التعويم يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة لأكثر من 580% كما هو حال السودان؟