في مطلع الألفية الثالثة، حذر خبراء الطاقة المصريين، حكومتهم آنذاك من مغبة الاستمرار في استرتيجية تصدير النفط والغاز الطبيعي، لأسباب مرتبطة بقرب تعرض ثروة مصر النفطية للنضوب، إضافة إلى متطلبات التنمية التي كانت الحكومات المصرية تعلن عنها، بهدف تحقيق معدلات نمو اقتصادي لا تقل عن 7%.
ومع استمرار الحكومات المتعاقبة، على تصدير النفط والغاز الطبيعي، دون اعتبار لمتطلبات المستقبل، فإنه بالإمكان اعتبار تصرف الحكومات المصرية تجاه الغاز الطبيعي على أنه إهدار للثروة الطبيعية، وبيعه بأسعار تقل عن متوسط البيع العالمي.
وفي عام 2008، أصبحت مصر مستورداً صافياً للطاقة، وخرج النفط من حزمة الموارد الرئيسة للنقد الأجنبي، وحسب تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن مصر تشهد وضعاً مأزوماً في توفير الطاقة بشكل عام، وفي الغاز الطبيعي بشكل خاص، رافقه انخفاض في معدلات الإنتاج.
وتبين المعلومات لجهاز الإحصاء خلال نوفمبر 2015، أن إنتاج مصر من الغاز الطبيعي في سبتمبر/أيلول 2014 بلغ 3.011 مليون طن، وتراجع في سبتمبر/أيلول 2015 إلى 2.686 مليون طن، أي أن قيمة التراجع بلغت 325 ألف طن خلال فترة المقارنة، وبنسبة تراجع بلغت 10.7%.
أما عن وضع الاستهلاك في مصر من الغاز الطبيعي، تشير نفس النشرة أيضاً أن الاستهلاك بلغ في سبتمبر/أيلول 2014 نحو 2.962 مليون طن وارتفع في سبتمبر 2015 إلى 3.071 مليون طن، أي أن الاستهلاك زاد بنحو 109 ألف طن، وبنسبة زيادة تصل إلى 3.6%.
والقراءة الأولية للفارق بين كميات الإنتاج والاستهلاك للغاز الطبيعي بمصر، قد لا توحي بوجود مشكلة كبيرة، ولكن الحقيقة التي تظهر حجم المشكلة في مصر، أن هذه الكميات المنتجة من الغاز الطبيعي بمصر، تواجه تحديين.
أولى التحديات هي حصة الشريك الأجنبي والتي تصل إلى نحو 40%، ثانياً التزامات مصر السابقة بعقود تصدير لعقود طويلة الأجل، وهذين الأمرين يمنعان مصر بشكل كبير من التمتع بحصتها من إنتاج الغاز، على الرغم من ضآلة حجم الإنتاج مما يجبرها على استيراد الغاز الطبيعي، للوفاء بمتطلبات الصناعة، وكذلك احتياجات المنازل والاستخدامات غير الصناعية الأخرى.
صفقة إسرائيل
إن كان شهر نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، قد شهد الإعلان عن بدء التوقيع على مذكرة تفاهم بين شركة دولفنيوس الخاصة المصرية، ومالكي حقل "لوثيان" الذي تسيطر عليه إسرائيل على شواطئ الأخيرة، فإن أزمة الطاقة عكست العلاقة بين القاهرة وتل أبيب.
وبعد أن كانت مصر تصدر الغاز الطبيعي لإسرائيل منذ منتصف التسعينيات، ستصبح مصر هي من تستورد الغاز في عام 2019/2020، بواقع 4 مليارات مكعب من الغاز سنوياً، ولفترة تمتد من 10 – 15 سنة.
ونشرت وسائل الإعلام، أن الحكومة المصرية ليست طرفًا في هذه الصفقة، وأنها لا تمانع في استيراد الغاز من أية دولة بالعالم، بما فيها إسرائيل.
وينص الدستور المصري، على عرض الاتفاقيات الدولية قبل بدء العمل بها، على البرلمان ليوافق عليها، ولكن يبدو أن الحكومة ستخرج من هذه الإشكالية لتحيل العلاقة في شأن استيراد الغاز إلى شركة قطاع خاص.
وعلى الرغم من شراكة الحكومة المصرية في تصدير الغاز الطبيعي إلى ف إسرئيل في التسعينيات، عبر شركة البحر المتوسط المملوكة لـ حسين سالم، فإن هذه العقود ظلت بعيدة عن البرلمان المصري، ولم يمارس بحقها دوره الرقابي، رغم إصرار المعارضة قبل ثورة 25 ينار على منع هذه الاتفاقية لاعتبارات قومية واقتصادية.
وثمة إشكالية قانونية أخرى ستكون عقبة أمام صفقة تصدير الغاز من إسرائيل لمصر، وهي الخاصة بموقع الغاز الطبيعي بالبحر المتوسط، حيث تم توقيع اتفاقية بهذا الشأن بين مصر وقبرص وإسرائيل، رسمت حدود مصر خارج منطقة حقل الغاز.
ولكن تبقى هذه الاتفاقية دون تفعيل، حتى يصادق عليها البرلمان، ولكن في ضوء طبيعة البرلمان المصري القادم، يمكن تمرير هذه الاتفاقية، وإن كانت ستحمل بين طياتها خسائر اقتصادية وأمنية كبيرة لمصر.
وكما فعلت مصر في التسعينيات بتصدير الغاز الطبيعي عبر شركة البحر المتوسط، لرجل الأعمال حسين سالم، يحدث هذه المرة نفس الفعل، حيث تصدر شركة دولفتيوس القابضة المصرية، المملوكة لمجموعة من رجال الأعمال، على رأسهم علاء عرفة، وهو رجل أعمال في مجال النسيج وأحد المستفيدين من اتفاقية الكويز التي تعمل على توثيق العلاقة مع إسرائيل.
أزمة المستقبل
على ما يبدو أن هناك إصرار مصري على غياب وجود استراتيجية قومية فعلية، في مجال الطاقة، كما تم خلال العقود الماضية، فتتم معالجة قضية الطاقة في إطار وقتي، مثل إتاحة تمويل الهئية العامة للبترول لسداد مديونيتها للشركات الأجنبية، لينخفض من نحو 6 مليارات دولار إلى 2.7 مليار بنهاية عام 2015، وذلك وفق البرنامج الحكومي، ولكن سداد هذه المديونية أتى عبر ما يعرف باستهلاك الديون، بمعنى تحويل المديونية من استحقاق للشركات الأجنبية إلى استحقاق لبنوك محلية مصرية.
أو التوجه للاستيراد من خلال تسهيلات ائتمانية من الحلفاء الخليجيين، أو من خلال التوسع في الدين الخارجي، وتناست الحكومة ما ساقته خلال أغسطس/آب الماضي من اكتشافها لبئر غاز ضخم على سواحل البحر المتوسط من خلال شركة ايطالية.
إن تقديرات الخبراء منذ نحو عشر سنوات، تشير أن استهلاك مصر من الطاقة يتزايد بنسبة 3% سنويا، ولكن المعدلات الحالية في ظل تراجع الإنتاج وزيادة الاستهلاك، ترشح هذه التقديرات للزيادة، في ظل أزمة تمويلية، يتوقع لها أن تستمر على الأقل في الأجل التوسط.
إن صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل، التي يتوقع لها أن تدخل حيز التنفيذ بعد أربع سنوات، تمهد لتبعات اقتصادية شديدة السلبية، إذ سيتم بموجبها السماح للقطاع الخاص استيراد الغاز الطبيعي لنفسه، أو تسويقه للغير، أن ترتفع تكاليف الإنتاج بشكل كبير في مصر، لتضيف عقبة جديدة أمام الصناعة والاستثمار.
إن مهمة الحكومة ليست الحصول على تعريفة استخدام القطاع الخاص لخط الغاز الطبيعي، أو مراكب تسييل الغاز التي تم استئجارها مؤخراً، فالحكومة ليست مجرد جاب، ولكنها مسؤولة عن تخطيط التنمية، لانتشال الفقراء من حالتهم المتردية، وتحسين أسواق العمل، وتحقيق معدلات نمو حقيقية، تعمل على تحسين الناتج المحلي الإجمالي، وتسعى لتوزيع عادل للثروة.