خرج بيان وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية لمجموعة العشرين يوم السبت 16 فبراير/ شباط الجاري، ليؤكد على عدم الدخول في حرب العملات. لكن الواقع يشير إلى أن السياسات النقدية للعديد من الدول المتقدمة تستهدف تخفيض قيمة عملتها لكي تستطيع أن تخرج من دوامة الركود والكساد عبر بوابة التصدير.
اليابان نجحت في تخفيض قيمة عملتها على مدار الشهور الأربعة الماضية بنحو 20%، ويصر مسئوليها على استمرار نفس السياسة لمزيد من خفض عملتهم خلال المرحلة المقبلة، من خلال طبع الين الياباني وطرحه في الأسواق للحفاظ على الأسعار المستهدفة، التي تحقق صالح الاقتصاد الياباني القائم بشكل رئيسي على التصدير.
وفي نفس المضمار تتجه بريطانيا نحو خفض قيمة الجنيه الاسترليني، الذي يقدر الخبراء تخفيضه بنحو 5% منذ بداية عام 2013، ويرى مسئولون بريطانيون وباحثون بأن المخرج للاقتصاد البريطاني من حالة الركود التي يعشها يكمن في تخفيض قيمة الجنيه الاسترليني.
وبطبيعة الحال فإن الدولار يحرص على هذه العلاقة التوازنية مع باقي العملات الرئيسة لكي يحافظ على بقاءه كعملة دولية، ومن أجل إنعاش الاقتصاد الأمريكي، ولعلنا نذكر الخطوة التي أقدم عليها الرئيس الأمريكي أوباما منذ نحو عامين، باسترداد سندات أمريكية بنحو 600 مليار دولار، كمحاولة لانعاش الطلب الداخلي.
وقد أصابت هذه الخطوة، وقتها، الاقتصاد العالمي، بمخاوف تضخمية يمكن أن يصدرها الاقتصاد الأمريكي للاقتصاد العالمي، عبر خروج جزء من هذه الأموال إلى أسواق المال، وبخاصة في الدول الصاعدة. لذلك كان الإجراء الاحترازي من هذه الاقتصاديات أنها فرضت ضرائب تصاعدية على الأموال الساخنة التي تدخل إلى أسواقها.
لوحظ أن مجموعة العشرين والدول الصناعية السبعة من قبلها لم تعلن بيانًا سلبيًا تجاه الخطوة التي اتخذتها اليابان بتخفيض قيمة عملتها، أو على ما أعلنه المسئولون البريطانيون من عزمهم القيام بمثل الإجراء الياباني، وأكد بيان مجموعة العشرين، بأن خفض أسعار الصرف ليس مستهدفًا، وأن سعر أية عملة متروك لقوى العرض والطلب.
ولكن على الجانب الآخر، فإن موقف كل من أمريكا والاتحاد الأوروبي تجاه الصين مختلف، حيث تُمارس ضغوطًا على الصين من أجل رفع قيمة عملتها منذ ما يزيد عن عشرة سنوات، وتذهب تقديرات أمريكا والاتحاد الأوروبي إلى أن عملة الصين منخفضة عن قيمتها الحقيقية بنحو 30%.
وفي ظل التسليم بصحة التقديرات الأمريكية والأوروبية لقيمة العملة الصينية، فإن اليابان على مشارف تحقيق تخفيض في عملتها لمعدلات قريبة من انخفاض قيمة العملة الصينية، ولكن رد الفعل لم يكن مساويًا لما مورس تجاه الصين، ويرجع ذلك إلى أن الاقتصاد الياباني يدور في فلك الاقتصاد الرأسمالي الأمريكي الغربي، ولا يمثل تحد، على الصعيد الحضاري أو السياسي أو الأمني كما هو الحال في الوضع الصيني.
فعقب الأزمة المالية العالمية، وإبان انعقاد أول اجتماع لمجموعة العشرين، أفصح المسئول الصيني بهذا الاجتماع بضرورة البحث عن عملة دولية أخرى لتسوية المعاملات الدولية، بسبب الخسائر التي ترتبت على التعامل بالدولار، وهو ما رُفض بشدة من قبل الإدارة الأمريكية.
ولذلك اتجهت الصين نحو تسويات لتجارتها الخارجية مع دول الجوار عبر العملات المحلية بغية التخفيف من الآثار السلبية للتعامل بالدولار، كما أنها بصدد إجراء تسويات أخرى لتجارتها مع دول الجوار وفي محيط الآسيان لتسويات التجارة الخارجية عبر العملة الصينية، اليوان، دون توسيط للدولار. وهو الأمر الذي يعني في الواقع حربا على الدولار، ومحاولة لزحزحته عن عرشه الذي اعتلاه منذ عام 1944.
وإن كانت الصين تعلن أنها لا تريد طرح اليوان كعملة دولية. ولكن وجهة نظر أخرى ترى أن طرح اليوان كعملة دولية هو مسألة وقت لا أكثر ولا أقل.
وعلى الصعيد ذاته اتخذت تركيا نفس الخطوة لإجراء تسويات لتجارتها الخارجية مع دول الجوار عبر العملات المحلية، وهو ما طالب بها بعض الخبراء المصريين في تسوية المعاملات التجارية بين البلدين "مصر وتركيا " من أجل التخفيف على ميزان المدفوعات المصري الذي يعاني من عجز شديد منذ ثورة 25 يناير.
يمكن النظر إلى بيان مجموعة العشرين الأخير الصادر يوم السبت الماضى على أنه مجرد إخراج سياسي فقط لا غير، ولكنه لا يعبر عن واقع موجود من قبل كل من اليابان، واتجاه قوى تحرص عليه بريطانيا، وسياسة ثابتة للصين للإصرار على انخفاض قيمة عملتها المحلية، وعدم الاستجابة للضغوط التي تمارس عليها من قبل أمريكا وأوروبا.
ولا يمكن القبول بهذا الواقع من قبل باقي دول العالم، وبخاصة الدول المتقدمة التي تعاني من تعافي هش من أزمتها المالية، أو من الدول الصاعدة التي تريد أن تجد لها مكانا على خريطة العالم الاقتصادية، وبالتالي قد تُتخذ خطوات مماثلة من هذه الأطراف لتخفيض قيمة عملاتها، وبالتالي فنحن أمام حرب عملات بالفعل، وسوف تبين الأيام القادمة هذا الصراع الخفي بين العملات.
العملة العربية الموحدة، أو حتى الخليجية الموحدة، حبر على ورق، لم تتحرك نحو واقع ملموس، وظلت رهن الصراعات السياسية، وخطى للتعاون الاقتصادي لا تسمن ولا تغني من جوع.
وظلت الاقتصاديات الخليجية أسيرة الارتباط بالعملات الأجنبية المختلفة وبخاصة الدولار، حتى بعد الأزمة المالية العالمية، على الرغم من الخسائر التي تكبدتها، في ثرواتها الاستثمارية المقومة بالدولار، الذي انخفضت معدلات الفائدة عليها لأقل من 0.25%، أو القيم الحقيقية لهذه الاستثمارات التي تعرضت للانخفاض نتيجة انخفاض قيمة الدولار.
وتذهب بعض التقديرات إلى أن الاستثمارات العربية مُنيت بخسائر تقدر بنحو 400 مليار دولار بسبب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، كما يبقى حجم هذه الأستثمارات في حد ذاته رقمًا مبهمًا لأبناء الوطن العربي.
بلغت الصادرات العربية نحو 1.1 تريليون دولار في عام 2011، وتستحوذ اليابان على 8.3 % من الصادرات العربية في نفس العام، وتقدر الزيادة في الصادرات العربية لليابان بنحو 16.6 % مقارنة بما كانت عليه في عام 2010.
أما الواردات العربية من اليابان فتمثل نسبتها 3.8 % من إجمالي الواردات العربية لنفس العام، ويعد ذلك تراجعًا عما كانت عليه هذه النسبة في عام 2010 حيث كانت بحدود 4.4 %.
وفي ظل اتجاه اليابان لخفض عملتها، فمن المتوقع أن تزيد حصة الواردات من اليابان بمعدلات كبيرة، وبخاصة أن الواردات العربية من اليابان تتمثل في العدد والآلات والصناعات التكنولوجية المتقدمة، وهو ما سيعطى المنتجات اليابانية ميزة نسبية أمام المنتجات الأخرى التي تستوردها الدول العربية من مناطق أخرى.
أما على صعيد الصادرات العربية إلى اليابان فإنها سوف تواجه بمنافسة كبيرة بسبب خفض العملة اليابانية، وبخاصة تلك السلع غير النفطية. فقد تكون اليابان ملزمة باستيراد النفط العربي لأنها مستورد صافي للنفط، ولكن باقي السلع الأخرى سوف تفقد حصتها لا محالة من السوق اليابانية أو على أقل التقدير، فإنها لا تحلم بأن تزيد من صادراتها لسوق اليابان.
وقد يكون السؤال البديهي: لماذا لا تقم الدول العربية هي الأخرى بتخفيض عملاتها، والإجابة للأسف أن مثل هذا الإجراء يضر بالاقتصاديات العربية، نظرًا لعدم مرونة الأجهزة الإنتاجية العربية لتستفيد من ميزة خفض قيمة العملة، فضلًا عن أن الدول العربية ليس لديها سوى السلع الأولية، وهي سلع متاحة من خلال مناطق أخرى، باستثناء النفط الذي يعد ميزة نسبية للدول العربية في سوق التجارة الدولية.
في ظل تراجع العملات الأجنبية لدول مثل اليابان أو بريطانيا وغيرها من الدول التي ستتجه لهذا المسار خلال الأيام القادمة، فإن الدول العربية لديها فرصة لسداد ديونها الخارجية المقومة بهذه العملات، فعلى سبيل المثال وفي الحالة اليابانية نجد أن ديونها المستحقة على دول عربية ومقومة بالين الياباني قد انخفضت قيمتها بنحو 20% التي انخفضت بها العملة اليابانية على مدار الشهور الأربعة الماضية.
يمكننا أن نرصد أمرين في هذا المضمار، الأول هو أن الاستثمارات الحالية للدول العربية، في أسواق الدول التي انخفضت قيمة عملتها، أو تلك التي في طريقها لاتخاذ هذه الخطوة سوف تنخفض قيمتها بقدر انخفاض قيمة عملات هذه الدول، كما سيكون أمام الاستثمارات العربية فرصة لزيادة فرصها الاستثمارية نظرًا لانخفاض الكثير من قيمة أصول الشركات بهذه الدول، وكذلك الحال سوف تنتعش أسواق المال لتلك الدول التي خفضت من قيمة عملتها بلا شك.
الإجراء الحادث بانخفاض عملات بعض الدول هو بلا شك نوع من الحماية التجارية التي تفرضها هذه الدول على واردتها، وتضع الكثير من العوائق المباشرة في وجه صادرات الدول الأخرى إليها. ولكننا لم نسمع صوتًا لمنظمة التجارة العالمية، لتواجه هذا التصرف.
وقد يفسر هذا السلوك سواء من قبل الدول الغربية أو الولايات المتحدة الأمريكية، على أنه مجرد تبادل مصالح من جهة، بالوقوف أمام الصادرات الصينية التي تغزو العالم وتحقق فوائض تجارية كبيرة وبخاصة في ظل حالة الركود ومعدلات النمو البطيئة في الاقتصاد العالمي، ومن جهة أخرى فإن هذا القبول الأمريكي الأوروبي هو بمثابة قبول بالأمر الواقع، حتى لا يضفي تحد اليابان بمزيد من الأجواء السلبية على الاقتصاد العالمي.