جاءت أزمة إنفلونزا الطيور في مصر لتطرح تحديا أمام المجتمع المدني بكل تنظيماته الأهلية، لا سيما أن تداعيات هذه الأزمة شملت المجتمع بأسره، فضلا عن تعدد تأثيراتها البيئية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الإدراكية المتعلقة بوعي الناس، ومن هنا فالدولة وحدها لن تكون قادرة على التعامل مع الأزمة دونما تكاتف من المجتمع المدني بتنظيماته المختلفة، سواء كانت جمعيات أهلية أو نقابات أو غرفا تجارية وغيرها.
ولعل ثمة خبرة اكتسبها عدد غير قليل من المنظمات الأهلية المصرية سواء في الداخل (أزمة الزلزال والفيضانات وغيرهما) أو الخارج (البوسنة، وفلسطين وغيرهما) تؤهلها للتعامل مع مثل هذه الأزمات شرط أن تتيح لها الدولة التحرك دونما قيود أو إقصاء.
وتبدو أهمية دور المجتمع المدني حين ندرك سرعته وانتشاره في ربوع مصر، حيث هناك أكثر من 17 ألف جمعية، فضلا عن النقابات وغيرها، كما أنه يتسم بمرونة في الوصول إلى شرائح متضررة من الأزمة لا تستطيع أن تصل لها الدولة خاصة في القطاع غير الرسمي، من مربي الدواجن المنزلية ممن ينتشرون في ربوع البلاد، ومنهم من يعتمدون في دخولهم على بيع الدجاج يوميا.
الأمر الآخر أن صناعة الدواجن في مصر -التي يعمل بها مليونا عامل ونصف باستثمارات تقدر بـ 17 مليار دولار- استطاعت تحقيق اكتفاء ذاتي، بما انعكس على دخول الشرائح المهشمة التي كانت تدبر احتياجاتها في إطار مواردها المحدودة من الدخل بشراء بعض أجزاء الدجاج من الأسواق، دون الحاجة لشراء دجاجة كاملة، بما يساعدهم على مواصلة الحياة. وهنا قد يلعب المجتمع المدني دوره في لفت النظر إلى البدائل المتاحة.
ولقد كشفت الأزمة وما صاحبها من شائعات حول تلوث المياه عن بيئة مجتمعية تحتاج لتوعية وضبط نفسي وإدراكي في أثناء الكوارث، ولا تستطيع الدولة إقناع المواطنين كلهم، بما تحمله العلاقة معهم من تراث عدم ثقة، وبالتالي مطلوب من العمل الأهلي لعب دور في التهدئة، بما يحافظ على الثروة الداجنة.
ويمكن اقتراح عدة أدوار يساهم من خلالها العمل الأهلي في مواجهة أزمة إنفلونزا الطيور بمصر، ومن أبرزها:
1- الدور التوعوي: من خلال تنظيم حملات توعية ووجود برامج تثقيفية لعموم أفراد المجتمع، وليس هذا الدور مقصورا على الجوانب الخاصة بالتعامل الصحي لتجنب الإصابة بالمرض، ولكن أيضا كيفية الاستهلاك السليم للدواجن والطيور بصفة عامة، بما لا يعطل إمكانيات المجتمع في هذا الجانب.
ولا مانع من تنظيم معارض لبيع الطيور والدواجن عن طريق مؤسسات المجتمع المدني، بعد أن تستوفى الشروط الصحية اللازمة، وبذلك نقلل من الخسائر الاقتصادية المترتبة على تجنب تناول الطيور والدجاج. وسوف يعزز من هذا الدور مشاركة نقابة البيطريين والمؤسسات الأخرى التي تختص بجوانب سلامة الطيور والدواجن المستخدمة.
2- قيام بعض جمعيات المجتمع المدني بجمع الطيور النافقة والتخلص منها بطريقة علمية، وذلك بالمحافظة على الترع والمصارف ومجرى النيل من إلقاء هذه الطيور بها، وتنبيه الأفراد إلى خطورة هذا التصرف.
3- تبني حملات لجمع تبرعات لصغار المضارين من عمال ومربين، حيث إن هذه الشريحة قد يغيب عنها الدعم الحكومي؛ إذ من المتوقع أن يقدم هذا الدعم للقطاع الخاص المنظم.
4- قد تفرض قضية التأمين على العمالة لدى القطاع الخاص أيا كانت صورته مهمة جديدة على الجمعيات الحقوقية المعنية بحقوق هؤلاء العاملين سواء بالمزارع أو المتاجر، فمن الواجب أن يتم التأمين عليهم من الآن لتفادي التعرض لمثل هذه الأضرار مستقبلا إذا ما واجهنا مشكلات مماثلة.
5- من الأهمية بمكان أن تضغط مؤسسات المجتمع المدني لتقديم تعويض لمربي الطيور بالمنازل خاصة في المناطق الريفية، أو على الأقل تقديم قروض متناهية الصغر لهؤلاء حتى يمكنهم تدبير شئون حياتهم، مع قيام هذه الجمعيات ببحث اجتماعي عن الحالات التي تحتاج إلى تعويض بالفعل.
6- محاربة ارتفاع الأسعار من قبل جمعيات حماية المستهلك، أو الدعوة للامتناع عن استهلاك البدائل المغالى في أسعارها، وكذلك الضغط على الأجهزة الرقابية بالدولة للقيام بدورها في مراقبة الأسعار، وتشجيع الفكر التعاوني بتفعيل الجمعيات القائمة، سواء كانت إنتاجية أو استهلاكية للمساهمة في خدمة المستهلكين.
7- الضغط من قبل المجتمع المدني على الحكومة لمراجعة سياسة الخصخصة في هذا التوقيت، لا سيما أن الأزمة فرضت بالفعل حالة من البطالة بين العاملين في قطاع الدواجن، وأن المضي في سياسات الخصخصة سوف يضيف آخرين إلى صفوف العاطلين.
8- قيام وسائل الإعلام بالضغط على الحكومة وذلك بمراجعة القرارات التي اتخذتها الحكومة مؤخرا بوقف الفوائد على قروض أصحاب مزارع الدواجن أو السماح بالتأخير في سداد أصل القروض، وهو ما لن تلتزم به بنوك القطاع الخاص، وليس أمام الحكومة إلا بنوك القطاع العام لتفعيل قرارها.
9 - تحرك خطباء المساجد وعلماء الدين في ربوع مصر لدفع الناس لتوجيه الزكاة والصدقات لتقليل الأضرار على العاملين بصناعة الدواجن. ويأخذ هذا الأمر شكلين أحدهما قصير المدى عبر تدبير احتياجات الفقراء النقدية العاجلة، والثاني طويل الأجل أي دعم لجان الزكاة لجمعيات تمويلية لتوفر مشروعات بديلة للنساء والرجال الذين يعتمد دخلهم على تربية وبيع الدواجن. وهنا نتذكر فريضة غائبة وهي الوقف لمساعدة مثل هؤلاء المتضررين (انظر فتوى: دفع الزكاة للمتضررين من إنفلونزا الطيور).
ومن النماذج الأهلية المهمة التي تعاملت سريعا مع تداعيات إنفلونزا الطيور الغرفة التجارية في الإسكندرية التي اتخذت قرارا بمساعدة أصحاب محلات الطيور، حيث رصدت مرتب 300 جنيه شهري مؤقت لكل تاجر لحين انتهاء الأزمة.
كما وفرت لأصحاب المحال محرقة بسعة 4 آلاف دجاجة في حالة تعذر قيام التاجر بعملية التجميد، أو ذبح الطيور، وتقدم أيضا سلفة قدرها 5000 جنيه (الدولار= 5.80 جنيهات مصرية) عند استئناف التاجر لنشاطه، أو حتى في حالة رغبته في تغيير نشاطه حسبما نشرت صحيفة الوفد الإثنين 20-2-2006.
غير أن تحقيق هذه الأدوار يرتبط بألا تقرأ الحكومة تحرك المجتمع الأهلي قراءة سياسية؛ أي إنه دلالة على قصورها، ففي هذه الأوقات التكاتف مطلوب من قبل الجميع؛ لأن التأثيرات ستعم علينا جميعا، ومن هنا لا بد من أن تنسق الدولة مع العمل الأهلي وتسهل الأدوار المطلوبة منها.