لا يخلو عصر من تناول القضايا الكلية المتعلقة بالجانب الاقتصادي في الإسلام، مثل الزكاة والربا، أو ما يتعلق بتدبير المال باعتباره أحد المقاصد الكبرى للإسلام، أو علاقة الدولة الإسلامية برعايا الدول غير الإسلامية، وغير ذلك من القضايا والموضوعات العامة.
ولكن مع ظهور الدولة الحديثة، وما ترتب عليها من نقل عن الحضارة الغربية من معاملات تمسّ حياة المجتمع، سواء لدى الدولة أو الأفراد، أصبح من الضروري أن ينذر بعض العلماء أنفسهم ليتصدّوا لهذا الأمر تنظيرا وعملا، ليقدموا للناس ما ييسّر لهم أمور حياتهم في ضوء الهدي الإسلامي.
توجه الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله، في دراسته ما بعد الجامعية، إلى تخصص غير مألوف بين أقرانه، فلم يختصر الطريق على نفسه بتحقيق كتاب في الفقه أو الأصول، أو تناول بعض القضايا في ضوء الفقه المقارن، بل اختار موضوعا شائكا، يمثل واحدة من أهم معضلات الدولة الحديثة، هو الدور التنموي للزكاة، وما يترتب عليه من آثار اقتصادية واجتماعية، فكانت رسالته لنيل درجة الدكتوراه بعنوان "فقه الزكاة.. دراسة مقارنة لأحكامها وفلسفتها في ضوء القرآن والسنة".
وتُظهر رسالته للدكتوراه الكمّ الهائل مما اطلع عليه من المؤلفات الاقتصادية بوجه عام، وما يخص علم المالية العامة منه بوجه خاص، وقدم فيها اجتهادات تناسب العصر في تحصيل الزكاة وما يترتب عليه من أمور تخص الدولة والأفراد، بخاصة تلك المعاملات التي لم تكن موجودة من قبل، مثل زكاة الركاز (النفط والمعادن) وواجب الدولة فيها تحصيلا وتوزيعا، وزكاة المستغلات مثل العمارات والسفن والناقلات الأخرى للأغراض التجارية، وكذلك أسواق المال وما يتداول فيها من أسهم وسندات، ليقدم فتاوى وأحكاما تعين الدولة إذا ما أرادت أن تطبق الزكاة من خلال مؤسسة عصرية.
ومن القضايا التي اهتم بها القرضاوي في تناوله لقضايا الزكاة في رسالته للدكتوراه دور الزكاة في معالجة الفقر والبطالة، وهما قضيتان مهمتان في واقع العالم الإسلامي، وقد شكل ذلك همًّا لدى القرضاوي فيما بعد في معالجته لمشكلات المجتمعات الإسلامية، وقد ألف في ذلك كتابا آخر بعنوان "الزكاة.. دورها في علاج المشكلات الاقتصادية وشروط نجاحها".
كتاب "لكي تنجح مؤسسة الزكاة في التطبيق المعاصر" للشيخ يوسف القرضاوي (الجزيرة)
يعدّ القرضاوي أحد الأعلام الذين أزاحوا الغبار عن فكرة شمول الإسلام، بخاصة لدى جيل الصحوة الإسلامية التي عاشتها دول العالم الإسلامي مع بداية سبعينيات القرن الـ20، وكان من الطبيعي في حديثه عن شمول الإسلام أن يكون الاقتصاد حاضرا.
لكن الاقتصاد الذي ينشده الدكتور القرضاوي، في ضوء تعاليم القرآن والهدي النبوي، هو ذلك الذي ينطلق من تصور الإنسان للإله والكون والحياة، ويحقق العبودية لله
ويشير إلى هذا المعنى أكثر من مرة، فيقول "إن الاقتصاد الإسلامي لا يمكن فصله عن التشريع الإسلامي، ولا عن التربية الإسلامية، ولا عن الثقافة الإسلامية، ولا عن الإعلام الإسلامي، ولا عن الأسرة الإسلامية، فالاقتصاد جزء من كل، وإن كان جزءًا له أهميته وتأثيره".
وفي كتابه "فوائد البنوك هي الربا المحرم"، يتحدث عن "شمائل الاقتصاد الإسلامي من حرمة الربا، وفرض الزكاة، والتكافل الاجتماعي، والعدل الاجتماعي، وعمارة الأرض، وحرمة الاحتكار، ووجوب الاعتدال في الإنفاق وتحريم الإسراف، وغير ذلك من المعاملات والأخلاق التي فرضها وبيّنها الإسلام في شريعته".
واكتمالًا لصورة ارتباط الاقتصاد بشمول الإسلام لدى القرضاوي، جاء مؤلفه المتميز "دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي"، الذي صدر في منتصف التسعينيات، ليؤكد دور القيم والأخلاق في كل مراحل الممارسات الاقتصادية، في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع، سواء أكان ذلك على مستوى الفرد أو الدولة، ويذكّر بأن أهم ما يميز الاقتصاد الإسلامي عن غيره من المناهج الأخرى ارتباطه بالقيم والأخلاق.
اتسم الدكتور القرضاوي منذ مدة طويلة بإسهاماته المتميزة في تناول الفتاوى والأحكام الشرعية في إطار من الوسطية والاعتدال، ومن بين المجالات المختلفة التي تناولتها فتاواه تلك التي تمسّ الجوانب الاقتصادية والمالية، سواء لدى الدولة أو المؤسسات أو الأفراد.
وحرص الشيخ في تلك الفتاوى على التنزيل الصحيح لقواعد الفقه على القضايا العصرية والنوازل، وبخاصة تلك التي عاشها المسلمون في أوروبا، فكان كتابه "الحلال والحرام في الإسلام"، وإسهاماته المتميزة في المجلس الأوروبي للإفتاء، فضلا عن إسهامه في القضايا التي تعرضت لها البنوك الإسلامية، وتجارة العملات وغيرها من قضايا.
لقد استطاع الدكتور القرضاوي أن يجعل من القواعد الفقهية عبارات سهلة معتادة على ألسنة المهتمين بالاقتصاد الإسلامي، مثل "الأصل في الأشياء الإباحة" و"لا ضرر ولا ضرار"، و"الضرورات تبيح المحظورات".
كتاب "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام" للدكتور الشيخ يوسف القرضاوي (الجزيرة)
برزت تجربة المصارف الإسلامية في منتصف السبعينيات من القرن الـ20، وكان القرضاوي منظّرا لأدوات عملها، وصيغ الاستثمار فيها، ومثّل علامة بارزة في هيئات الرقابة الشرعية في العديد من المصارف الإسلامية، كما شغل عضوية مجلس إدارة العديد من المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية.
وكان القرضاوي بمنزلة الحارس على تلك التجربة، فانتقد بعض الممارسات التي رآها مخالفة للإسلام، وقوّم العديد منها، لتعود المصارف الإسلامية إلى حياض الشريعة، مما جعل العملاء يقبلون عليها.
وفي الوقت الذي أجاز فيه الدكتور القرضاوي للمصارف الإسلامية بيع المرابحة للآمر بالشراء، كمخرج بديل عن التعامل الذي تجريه البنوك الربوية، فإنه كان يدعو المصارف الإسلامية إلى الخروج من سجن عقود المرابحة، بعد أن وجد أن أغلب معاملات المصارف الإسلامية انحصرت في هذه العقود، ودعاها إلى تبنّي مبدأ المخاطرة عبر آلية المشاركة، والعمل بقاعدة الغُنم بالغُرم.
وفي هذا المضمار يقول "أصبحت أمسك قلبي بيدي خوفًا على المصارف الإسلامية التي أنظر إليها كما ينظر الوالد المشفق على ولده، إذا لمح فيه بوادر الانحراف عن الطريق المستقيم"، وفي موضع آخر يذكر "أمسيت قلقا شديد الخوف على البنوك الإسلامية أن تبتعد عن الأهداف الحقيقية التي أُسّست من أجلها، وأن تغلب عليها الشكلية حتى تفقد روحها واتجاهها".
ألف الدكتور القرضاوي مجموعة من الكتب في مجال الاقتصاد الإسلامي، فضلا عن الفتاوى في المجال المالي والاقتصادي، والبحوث الخاصة بالمجامع الفقهية التي كان عضوا فيها.
وفي ما يأتي أبرز الكتب التي قدمها القرضاوي في الاقتصاد الإسلامي: