من المسلم به أن الاقتصاد المصري يعاني من مشكلات هيكلية مزمنة، حيث يغلب على ناتجه المحلي الاستهلاك، ويعاني من ارتفاع عجز الموازنة، وزيادة الدين العام، وعجز الميزان التجاري، واتساع فجوة الفقر، وتفاقم البطالة. ولكن بعد أحداث ثورة 25 يناير، شهدت هذه المؤشرات المزيد من التراجع، بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني، وما صاحبها من ارتفاع تطلعات الشعب المصري حول احتياجاته الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن هذه التطلعات لم تكن تتناسب مع المقدرات الاقتصادية العامة للدولة، وهو ما أدى إلى رفع فاتورة الاستجابة للمطالب الفئوية، فعلى سبيل المثال قفزت مخصصات الأجور بالموازنة من 117 مليار جنيه في 2010/2011، إلى 218 مليار جنيه في 2015/2016. وظهرت تداعيات سلبية بشكل كبير في قطاعي الطاقة، والغذاء، ترتب عليها زيادة الاعتماد على الخارج، وهو ما تم رصده بعد ثورة 25 يناير، وعلى وجه التحديد بعد تولي أول رئيس مدني منتخب في منتصف عام 2012. ولكن المشكلة تصاعدت بشكل أكبر بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013. ونظرًا لحالة التأييد التي حظي بها الانقلاب العسكري بمصر من قبل دول خليجية (السعودية، والإمارات، والكويت) فقد قدمت هذه الدول دعماً نقدياً وعينياً للاقتصاد المصري، ساعد بشكل كبير على عدم سقوطه. وبعد مضي ما يزيد عن عامين على تجربة دعم الدول الخليجية للاقتصاد المصري، حري بنا أن نقوِّم التجربة ونقف على كيفية توظيف هذا الدعم، ومدى استفادة الاقتصاد المصري منه.
في يوليو 2013 أعلن وزير المالية المصري آنذاك (د. أحمد جلال) أن مصر حصلت على 12 مليار دولار من دول الخليج، خصصت منها 9 مليارات لدعم احتياطي النقد الأجنبي، و3 مليار دولار لدعم الموازنة العامة [1]. وفي أغسطس 2014 أعلن وزير المالية الحالي (هاني قدري دميان) نتائج موازنة العام المالي 2013/2014، مبيناً، أن ما تلقته مصر من منح الدول الخليجية، عبارة عن 21 مليار جنيه نقداً (3 مليارات دولار)، و53 مليار جنيه مساعدات في شكل مواد بترولية، فضلاً عن استخدام الحكومة المصرية لنحو 20 مليار جنيه من وديعة حكومية تعود لبداية التسعينيات من القرن العشرين، تكونت من منح خليجية في ذلك التوقيت [2]. وعقب الانتهاء من مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي بمارس 2015، حصلت مصر على دعم خليجي (السعودية، والإمارات، والكويت، وسلطنة عمان) قدر بنحو 12.5 مليار دولار، حصلت منها مصر بالفعل في أبريل 2015 على 6.8 مليار دولار ضخت نقداً لدعم احتياطي النقد الأجنبي بالبنك المركزي المصري في شكل ودائع بسعر فائدة 2.5% سنوياً. ويمثل باقي مبلغ الـ 12.5 مليار دولار استثمارات سيتم ضخها من قبل دول الخليج على مدار السنوات القادمة. والمتابع لتطوير المنح الحكومية لمصر على مدار الفترة من 2012/2013 – 2015/2016 يجد طفرة كبيرة تظهر حجم الدعم الخليجي لمصر، حيث بلغت المنح الحكومية لمصر في عام 2012/2013 نحو 4.8 مليار جنيه فقط، ثم 95.8 مليار جنيه في 2013/2014، وتراجعت في 2014/2015 إلى 23.4 مليار جنيه، ويقدر لهذه المنح أن تصل إلى 2.2 مليار جنيه في العام المالي الحالي 2015/2016 [3]. ويمثل عام 2013/2014 ذروة المنح والمساعدات الخليجية لمصر.
توظيف مصر للدعم الخليجي
في ضوء المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها مصر، وكذلك حالة الترقب التي انتابت كافة الشركاء الاقتصاديين بعد يوليو 2013، وجدت الحكومة المصرية نفسها أمام التزامات حتمية، متمثلة في استحقاقات الإنفاق العام بالموازنة، من أجور وفوائد الدين، ومخصصات الدعم، والإنفاق على بنود التعليم والصحة. وفي نفس الوقت الوفاء بمتطلبات المواطنين والشركات من احتياجات الوقود عند الأسعار المدعومة. وبالتالي تم توجه معظم الدعم الخليجي، إلى سد جزء كبير من احتياجات الموازنة، ومع ذلك لم تنجح الحكومة في تخفيض عجز الموازنة في العام المالي 2013/2014 عن 12.8%، على الرغم من حصولها على دعم خليجي قارب الـ 100 مليار جنيه مصري. والجزء الثاني الذي وجدت الحكومة المصرية نفسها مضطرة لاستخدام الدعم الخليجي فيه، هو دعم احتياطيات النقد الأجنبي، نتيجة سياسة حماية سعر الصرف التي تبنها البنك المركزي المصري، منذ ثورة يناير 2011، وتسببت في استنزاف احتياطي النقد، وأدت إلى خروج آمن للاستثمارات الأجنبية غير المباشرة، وكذلك أموال القطاع العائلي الذي انتباته حالة من القلق حول المستقبل الاقتصادي لمصر.
هناك مجموعة من الملاحظات يمكن رصدها على تجربة الدعم الخليجي للاقتصاد المصري بعد يوليو 2013، والتي من أهمها ما يلي:
– أن الحكومة المصرية لم ترتب سياساتها الاقتصادية على سيناريو تراجع الدعم الخليج، بل وانتهائه بالكلية، ولذلك يشهد الدين العام (المحلي + والخارجي) تصاعداً ملحوظاً، حيث بلغ هذا الدين 2.2 تريليون جنيه مصري، بنهاية ديسمبر 2014 [4]، وتقدر فوائده السنوية بنحو 242 مليار جنيه، وهو ما يزيد على مخصصات التعليم والصحة والاستثمارات العامة مجتمعة. ولم تعلن الحكومة خطتها تجاه تراجع الدعم الخليجي في ضوء أزمة انهيار أسعار النفط بالسوق الدولية، وتأثيرها السلبي على مقدرات الدول الخليجية الداعمة لمصر.
– على الرغم من أن الدعم الخليجي لمصر تم التصرف فيه في ضوء احتياجات ملحة وحتمية، إلا أنها كلها تأتي في إطار الإنفاق الجاري، وليس الاستثماري، لذلك ستظل مصر في احتياج لدائم للدعم الخارجي، أو الاستدانة. وتظهر بيانات النشرة الاقتصادية للبنك المركزي المصري عن يوليو 2015، أن الاستثمارات الخليجية المباشرة (السعودية، والإمارات، والكويت) بلغت في 2012/2013 نحو 718 مليون دولار، ووصلت في 2013/2014 إلى 814.6 مليون دولار، بزيادة قدرها 96 مليون دولار، ولكنها ارتفعت خلال الفترة (يوليو 2014- مارس 2015) إلى 1.8 مليار دولار، ومع وجود هذه الزيادة الملحوظة خلال الفترة الأخيرة، إلا أنها شديدة التواضع لاحتياجات مصر الاستثمارية من جهة، ولقدرات هذه الدول الخليجية الاستثمارية التي تربو عن 2 تريليون دولار في العالم، من جهة أخرى.
تحتاج مصر بشكل عاجل لدعم من نوع خاص، يتمثل في إعادة بناء قواعدها الإنتاجية، المتمثلة في قطاعي الزراعة والصناعة، حتى تتعافى المعاملات الخارجية لمصر، بحيث تقل وارداتها وتزيد صادراتها، وتنجح في توفير جزء كبير من احتياجاتها من الإنتاج المحلي، وفي نفس الوقت تصل لمرحلة تمكنها من تخفيف الضغط على مواردها الضعيفة من النقد الأجنبي. وإذا أرادت الدول الخليجية تقديم دعمها بشكل إيجابي لمصر فعليها أن تدعم الاستثمارات الحقيقية بقطاعي الزراعة الصناعة، بنحو 20 مليار دولار سنوياً ولمدة لا تقل عن 5 سنوات. ولكن هذا الأمر يتطلب أن تقوم الحكومة المصرية، بالتخلي عن سياسة الجزر المنعزلة بين مكونات سياستها الاقتصادية، فيكون أداء السياسات النقدية والتجارية والمالية متكاملاً فيما بينها، ولا يتصور صانع كل من هذه السياسات أنه يعمل بمعزل عن باقي السياسات الأخرى. ولابد من أن تمتلك مصر برنامجاً حقيقاً لمعالجة أزمة مديونياتها بعيداً عن المزايدات السياسية، وإلا ستجد نفسها بين مطرقة الدين العام وسندان الدعم الخارجي، وكلاهما يعني مزيداً من الضعف بأداء الاقتصاد المصري.