في مطلع يوليو 2018 ألقى مصطفى مدبولي رئيس حكومة الانقلاب بمصر بيانًا لبرنامج حكومته والذي تضمن خمسة محاور، وقد أشار مدبولي ضمن بيان برنامج حكومته إلى مجموعة من القضايا الاقتصادية، وهي كعادة هذه البيانات عبارة عن جملة فضفاضة، وتفتقد إلى الالتزام بالبرامج الواضحة والمحددة، أو التوقيتات الزمنية. إلا أن الملف للنظر أن الحكومة قطعت على نفسها وعودًا غير قابلة للتنفيذ، ومنها تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الرئيسة في المدى المتوسط، وتوفير 900 ألف فرصة عمل سنويًا، وعدم ترك فقير يتكفف الناس.
وفي هذه السطور، نستعرض مدى إمكانية تحقيق هذه المستهدفات، في ضوء أداء الحكومة الحالي، وكذلك في ضوء السياسات الاقتصادية، التي يستحيل معها الوصول لهذه الأهداف، حيث تؤدي السياسات الاقتصادية المعلنة لعكس هذه الأهداف تمامًا.
وفق ما نقلته جريدة الأهرام بعدد 4 يوليو 2018، نجد ما نصه “وأوضح رئيس الوزراء أن محور حماية الأمن القومي يضم أيضاً برامج مهمة من أهمها تحقيق الأمن المائي والحفاظ على حقوق مصر المائية وتنمية وترشيد استخدام الموارد المائية المتاحة هذا فضلاً عن الأمن الغذائي وتوفير مخزون كاف من السلع الاستراتيجية في المدى القصير وتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الرئيسية في المدى المتوسط”2 .
ولو كان مضمون برنامج الحكومة توقف عن تحقيق الأمن الغذائي، لوسعه الأمر، وما كان لأحد أن يتوجه له بنقد، حيث يمكن تحقيق الأمن الغذائي عبر مسارات الإنتاج المحلي أو الاستيراد، ولكن أن يتحدث عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الرئيسة في المدي المتوسط، فهذا من مظاهر الاستخفاف بالمجتمع، لأن هناك مجموعة من العوائق والتحديات تحول دون وصول مصر للاكتفاء الذاتي من محاصل القمح أو الذرة أو الفول أو العدس، أو المحاصيل النباتية الزيتية، بسبب عدم تبني سياسات اقتصادية وزراعية تعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي ولو بنسب تزيد عن 75% من المطلوب لهذه السلع.
ويبقى التحدي الذي يجب أن تحاسب عليه حكومة مدبولي بعد 5 سنوات، من قبل الشعب، هو أن يحقق الاكتفاء الذاتي كما وعد، وإن كان برنامجه الذي أشارت إليها جريدة الأهرام، لم يتضمن السياسات اللازم لتحقيق هذا الهدف، كما لم يتعرض كذلك لمضمون البرامج أو الجداول الزمنية للتقدم لتحقيق هدف الاكتفاء الذاتي. إن ما تقوم به حكومات الانقلاب العسكري لا يساعد الفلاحين على زيادة المحاصيل الاستراتيجية، كما هو الحال في القمح، حيث تُأخر الحكومة الإعلان عن أسعار توريد القمح والأرز لمواعيد متأخر، وعادة ما تكون الأسعار المعلنة غير مربحة للفلاح، مما يجعله ينصرف لزراعة محاصيل أخرى، ولا ينتج من المحاصيل الاستراتيجية إلا بقدر احتياج أسرته، وما زاد عن ذلك يفكر في بيعه للحكومة، أو للتجار في القطاع الخاص. وكذلك بالنسبة الأرز حيث تم تقليص المساحات الممكن زراعتها، بحجة مشكلة المياه، وأعلن مؤخرًا عن بدء تنظيم إجراءات استيراد الأرز، لتضيف عبئًا جديدًا على فاتورة استيراد الغذاء، في بلد يعاني من فجوة تمويلية بموازنته العامة تزيد عن 22 مليار دولار.
المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، مصر في أرقام 2018، ص 71.
ومن خلال البيانات المدرجة بالجدول عاليه نجد أن كافة المحاصيل تراجعت من حيث نسبة الاكتفاء الذاتي في عام 2016، مقارنة بما كانت عليه في 2012، وهو ما يعني أن ثمة تراجع في إنتاج هذه المحاصيل، أو أن الإنتاج لم يعد كافيًا لزيادة معدلات الاستهلاك بسبب ارتفاع معدل الزيادة السكانية خلال الفترة. وإن كانت أرقام نفس المصدر توضح أن محصول القمح في 2016 تراجع عما كان عليه من حيث كمية الإنتاج بنسبة 2.8%، حيث بلغت كمية المحصول في 2016 نحو 9.3 مليون طن، مقارنة بنحو 9.6 مليون طن في 2015.
أيضًا نجد أن ثمة تراجع ملحوظ بشكل كبير في نسبة الاكتفاء الذاتي من الفول، وهو وجبة شعبية، فضلًا عن كونه وجبة الفقراء في ظل ارتفاع معدلات التضخم وتقلص الدخول، مع تطبيق إجراءات برنامج صندوق النقد الدولي، حيث تراجعت نسبة الاكتفاء الذاتي بنحو 18.8% بين عامي 2012 و2016. وكذلك بالنسبة للأرز فقد تراجعت نسبة الاكتفاء الذاتي بين نفس فترة المقارنة بنحو 2%، على الرغم أن عام 2016، لم يشهد هذا التشدد الحكومي في تقليص مساحات الأرز التي شهدها عام 2018، حيث تقوم الحكومة بتجريف الأراضي المخالفة للمساحات المحددة لزراعة الأرز.
والأرقام المذكورة بالجدول عاليه تظهر صعوبة موقف مصر في إنتاج سلع استراتيجية تتعلق بالغذاء، فكيف يعلن رئيس وزراء حكومة الانقلاب أنه سيحقق اكتفاءً ذاتيًا من هذه السلع في ظل أزمة المياه، وتراجع نصيب الفرد من المياه خلال الفترة الماضية. وكنا نود أن يطلع الشعب ومجتمع الأعمال والمزارعين عن خطة وبرنامج الحكومة الذي سيؤدي إلى تحقيق هدف الاكتفاء الذاتي، حتى يمكنهم الوقوف على ملامحه، وتكلفته المالية، والمساهمة في تحقيقه.
والوضع الحالي يكلف مصر واردات غذائية وحبوب سنويًا بما يعادل نحو 10 مليارات دولار، ومنذ فترة والميزان التجاري للسلع الغذائية والحبوب يحقق عجزًا، وهو ما سنتناوله فيما يلي:
مصر تعاني من عجز في ميزانها التجاري الخاص بالسلع الغذائية بدون الحبوب، وعلى الرغم من تذبذب هذا العجز من حيث القيمة إلا أنه لا يزال مستمر، ويمثل عبء على الالتزامات المالية تجاه العالم الخارجي بالعملات الاجنبية. فقد تراوح هذا العجز ما بين 4 مليارات دولار في حده الأعلى بعام 2012/2013 و2.6 مليار دولار في عام 2016/2017.
لم تقل واردات مصر من السلع الغذائية بدون الحبوب خلال الفترة عن نحو 5 مليارات دولار، إلا في عام 2014/2015، حيث بلغت الواردات نحو 4.7 مليار دولار، إلا أنها بلغت حدها الأعلى بنحو 6.1 مليار دولار في عام 2015/2016.
وعلى صعيد الصادرات من السلع الغذائية بدون الحبوب، نجد أنها أخذة في التحسن حيث وصلت لنحو 3 مليارات دولار في عام 2016/2017، مقارنة بنحو 1.3 مليار دولار في عام 2012/2013. وإذا ما كانت الصادرات من السلع الغذائية بدون الحبوب يتحسن أدائها على مدار السنوات الماضية، إلا أن موقف مصر من الحبوب كان عكس ذلك تمامًا،
تمثل الحبوب واحدًا من التحديات الكبيرة على أجندة الغذاء في مصر، حيث يأتي ترتيب مصر على قمة قائمة مستوردي القمح عالميًا، وبشكل عام نجد الفجوة كبيرة بشكل ملحوظ بين صادرات وواردات الحبوب على مدار الفترة 2012/2013 – 2016/2017. ويوضح ذلك البيانات الخاصة بالعجز، حيث بلغ حدوده القصوى عامي 2013/2014 و2016/2017 بنحو 4.5 مليار دولار لكل عام على حدة.
وإذا كانت مصر تنتج الآن 9.3 مليون طن من القمح، ويمثل ذلك 47.7% من احتياجاتها، فالمطلوب لتحقيق الاكتفاء الذاتي أن يصل إنتاج مصر لنحو 20 مليون طن، مع الأخذ في الاعتبار الزيادة السنوية، الناتجة عن الزيادة السكانية.
بعد ذكر مجموعة من المستهدفات التي تتعلق بالموازنة العامة ومشروعات البنية الأساسية، نقلت الأهرام عن بيان الحكومة حول فرص العمل التي ستتاح سنويًا ما نصه: “وينتج عن كل هذه الأنشطة توفير نحو 900 ألف فرصة عمل سنوياً بإجمالي 3٫6 مليون فرصة عمل فى 4 سنوات ولن تغفل الحكومة حصة الأشخاص ذوي الإعاقة والشباب والمرأة المعيلة من هذه الفرص”.
الحديث عن هذا العدد من فرص العمل التي ستعمل الحكومة على توفرها، لم يعد مقبولًا في ظل التقارير التي تتحدث عن حالة الركود التي يعيشها الاقتصاد المصري، وبخاصة القطاع الخاص غير النفطي3 . فضلًا عن أن مؤشر التشغيل الذي تأخذ به الحكومة المصرية، غير مقبول واقعيًا، فإحصاء الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء تعتبر أن كل من يعمل ساعة في الأسبوع خارج نطاق العاطلين، وهي مؤشرات تحول دون استقرار الأفراد والأسر اجتماعيًا، والشاهد على ذلك ما تذكره احصاءات حكومية عن تراجع حالات الزواج وزيادة معدلات الطلاق بسبب الأوضاع الاقتصادية. حيث تراجعت حالات الزواج في مارس 2018 إلى 56.9 ألف حالة مقارنة بنحو 75.5 ألف حالة في مارس 2017، أي أن التراجع في حالات الزواج بلغت نسبته 25% تقريبًا. وإن كانت نسبة الطلاق تراجعت في مارس 2018 إلى قرابة 15 ألف حالة مقارنة بـ 18.5 ألف حالة في مارس 20174 ، إلا أنها نسبة مرتفعة.
وعلى صعيد آخر نجد أن تصرفات الحكومة تؤدي إلى مزيد من أعداد العاطلين وليس زيادة أعداد المشتغلين، فما أعلنته الحكومة خلال مطلع 2018 من وقف العمل بالشركة القومية للأسمنت، وعرض برنامج المعاش المبكر على العاملين، والذين يبلغ عددهم نحو 2300 عامل5 ، لا ينم على وجود استراتيجية لزيادة عدد فرص العمل. إن البديل الذي يرى في الأفق لغلق الشركة القومية للأسمنت هو إقامة مصنع جديد للأسمنت تابع للقوات المسلحة في محافظة بني سويف6 . وبالتأكيد من سيعملون في هذا المصنع هم المجندين، أو عمال وفق شروط عمل جديدة، هي بالطبع أقل مما يحصل عليه العاملون بالشركة القومية للأسمنت، والسؤال هنا لو كان صانع السياسة الاقتصادية حريص على زيادة فرص العمل، لاستوعب عمالة الشركة القومية في مصنع القوات المسلحة الجديد، ولا يتركوا للبطالة، بعد أن اكتسبوا مهارات عمل على مدار السنوات الماضية.
وعند الهدف الثالث الذي لن توفي به حكومة مدبولي، نقلت الأهرام عن بيان الحكومة ما نصه “وأكد مدبولى التزام حكومته بتنفيذ برامج عديدة للحماية الاجتماعية وشدد على ان الحكومة لن نترك شخصاً فقيراً يتكفف الناس فالحكومة أولى به من ناحية التشغيل إن كانت لديه القدرة على العمل أو من ناحية إعالته إن كان غير قادر على الكسب أو كان واقعاً تحت خط الفقر”
الحديث عن حماية الفقراء من حكومات ما بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013، هو نوع من الالهاء السياسي، فالإجراءات الاقتصادية المتعلقة بالتخلص من برامج الدعم، أو تحرير أسعار السلع والخدمات العامة، في ظل عدم رفع الأجور لتتناسب مع الأسعار، أو استمرار سوء توزيع الثروة، أدى إلى اتساع شريحة الفقراء، ومن الصعوبة بمكان الحديث عن برنامج الحماية الاجتماعية عبر (معاش الضمان الاجتماعي أو تكافل وكرامة) فهذه البرامج لا توفر مالا يسع الفرد لتوفير قوت الكفاف، فماذا تعني حماية اجتماعية للفقراء بدخل يتراوح ما بين 350 جنيه – 450 جنيه في الشهر؟ فضلًا عن أن عدد المتقدمين لمعاش تكافل وكرامة يبلغ 3.2 مليون أسرة تم قبول 1.7 مليون أسرة فقط حتى عام 2017، كما أن البرنامج بدأ تنفيذه في عام 2015 بتمويل من الحكومة المصرية وقرض من البنك الدولي7 ، فهل سيظل دعم الفقراء وحمايتهم يفتقد للموارد الذاتية، ونقترض لتوفير الفتات لفقراء مصر؟
إن ثمة تعهدات للحكومة تجاه صندوق النقد الدولي بالتخلص من دعم الوقود بنهاية عام 2019، فهل ستكفي مخصصات تكافل وكرامة لحماية الفقراء في مصر؟ إن الحد الأدنى للدخل في مصر بحجم إنفاق 1.25 دولار في اليوم لأسرة مكونة من 4 أفراد هو 2670 جنيه، فكيف لا تسأل الأسر الفقيرة الناس لسد حاجتها إذا كانت تحصل على 450 جنيه في الشهر من برامج الحماية الاجتماعية، مع الأخذ في الاعتبار أن عدد الأسر المستحقة لهذه المعاشات يقدر بنحو 5.5 مليون أسرة، حسب البيانات الحكومية، وأن الحكومة لم تستجب إلا لنحو 3.5 مليون أسرة فقط، علمًا بأن هذا العدد سوف يشهد زيادة أكبر في ظل استكمال شروط صندوق النقد الخاصة بالتخلص من الدعم.
ومما سيزيد من صعوبة تحقيق هدف الحكومة برعاية اجتماعية لكامل الفقراء، ما تم بعد الانقلاب العسكري بتضييق الخناق على العمل الخيري، وسيطرة الحكومة على الكثير من الجمعيات الكبرى، وتولي بعض العسكريين لأمر هذه الجمعيات، مما يجعل المتبرعين يتخوفون من التعامل مع هذه الجمعيات.
سلوك حكومة مدبولي عبر منظومة وعوده ببيان برنامج حكومته، ليس بجديد، فثمة استكمال للشكل الإجرائي، بأن الحكومة ألقت بيانها وفق مقتضيات الدستور، وستتم مناقشة شكلية خلال الجلسات باللجان النوعية أو الجلسة العامة لمجلس النواب، ولكن في النهاية سيكون القرار قبول مجلس النواب لبيان الحكومة.
حكومة مدبولي مطمئنة بأن لا مساءلة حقيقية تتم، لا من قبل مجلس النواب، ولا من قبل المجتمع المدني، بسبب حالة الكبت السياسي التي تشهدها مصر منذ الانقلاب العسكري. وإلا لو كانت هناك مساءلة، لما أطلت الحكومة وعودًا تعلم تمامًا أنها لن تتحقق، وأنها تفتقد لأجندة تنموية من الأساس، فضلًا عن عمل مؤسساتها فيما يعرف بسياسة الجزر المنعزلة ( 8).
الهامش
1 جاء إلقاء بيان برنامج حكومة مصطفي مدبولي أمام مجلس النواب بمصر، إعمالًا للفقرة الأولى من المادة 146 من دستور الانقلاب الذي أنجز عام 2014، والتي تنص على “يكلف رئيس الجمهورية رئيسًا لمجلس الوزراء، بتشكيل الحكومة وعرض برنامجه على مجلس النواب، فإذا لم تحصل حكومته على ثقة أغلبية أعضاء مجلس النواب خلال ثلاثين يومًا على الاكثر، يكلف رئيس الجمهورية رئيسًا لمجلس الوزراء بترشيح من الحزب أو الائتلاف الحائز على أكثرية مقاعد مجلس النواب، فإذا لم تحصل حكومته على ثقة أغلبية أعضاء مجلس النواب خلال ثلاثين يومًا، عد ًالمجلس منحلًا ويدعو رئيس الجمهورية لانتخاب مجلس نواب جديد خلال ستين يومًا من تاريخ صدور قرار الحل .
2 صحيفة الأهرام، 4/7/2018.
3 تقرير: تراجع الأوضاع التجارية بالقطاع الخاص في مصر خلال يونيو، مصراوي، 3/7/2018.
4 الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، النشرة المعلوماتية، يونيو 2018، ص 33.
5 القومية للأسمنت تعد خطة للمعاش المبكر للعاملين، اليوم السابع، 18/4/2018.
6 مصر تبدأ تشغيل مصنع جديد للأسمنت قيمته 1.1 مليار دولار في غضون أيام، رويترز، 31/1/2018
7 وزارة المالية المصرية، البيان التمهيدي لموازنة عام 2018/2019، ص 9.