عامان على الحراك الثوري في سوريا، ولازالت التداعيات السلبية تتوالى على كافة مناحي الحياة هناك، فالمسار السياسي لحل الأزمة لا يبشر بإمكانية الوصول لحلول ممكنة، وتنتقل المواجهات العسكرية بين نظام الأسد وقوى المعارضة الثورية من مرحلة إلى مرحلة، ولكن كلا الطرفين لم يمكنه بعد حسم الصراع لصالحه.
ووسط هذه الأجواء فإن الاقتصاد السوري شهد تراجعًا كبيرًا عبر العديد من مؤشراته الكلية، سواء فيما يتعلق بقيمة ومعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، أو توقف النشاط السياحي بالكامل هناك.
كما شهد سعر صرف الليرة السورية انخفاضًا حادًا أمام العملات الأجنبية، وساهم ذلك في وجود ضغوط تضخمية مرتفعة في سوق السلع والخدمات بسورية.
ولكن يلاحظ أن أداء الاقتصاد السوري خلال العامين الماضيين قد تعرض لعقوبات اقتصادية غربية وعربية، مما ساهم في زيادة الضغوط عليه، وظل اعتماد الاقتصاد السوري على التعاملات مع كل من إيران والعراق ولبنان والأردن من جانب، والتعاملات الروسية من جانب آخر.
يصنف الاقتصاد السوري على أنه من الاقتصاديات المتنوعة، أي أن القطاعات الاقتصادية المختلفة تساهم في تكوين ناتجه المحلي الإجمالي، فلا يعتمد على قطاع واحد بعينه.
وقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي السوري في نهاية عام 2010 نحو 59.1 مليار دولار أمريكي.
إلا أن تقديرات المركز السوري لبحوث السياسيات تذهب إلى أن الخسائر الاقتصادية التي منى بها الاقتصاد السوري على مدار عامي 2011 و2012، بنحو 48.4 مليار دولار، أي ما يعادل نسبة 81.7% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010.
وليس هذا فحسب بل انقلب معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي من نسبة تقدر بنحو 7% في عام 2010 إلى معدلات سلبية بنحو 5.5%، ويعكس ذلك التراجع في القدرات الإنتاجية والخدمية للاقتصاد السوري على مدار العامين.
ومن شأن تراجع قيمة ومعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي أن تزيد معدلات البطالة والفقر، وتبين تقديرات المركز البحثي السوري ارتفاع نسبة البطالة بنهاية عام 2012 بنحو 34.9 % من قوة العمل ، كما وصلت معدلات التضخم في نفس التاريخ لنحو 51%.
وهي بلا شك تعكس تراجع الأوضاع الاجتماعية داخل المجتمع السوري، وما يترتب عليها من معناة بمستوى معيشة السوريين بالداخل، وتجلى ذلك في زيادة عدد الفقراء في سورية نتيجة للمواجهة العسكرية بنحو 3.1 مليون فرد، ووجود ما يزيد عن نصف مليون مهاجر مع نهاية عام 2012.
كما قدرت الزيادة في الإنفاق العسكري للنظام السوري بنحو 3.6 مليار دولار على مدار العامين، وهو ما يعد استنزاف للأوضاع المالية لنظام الأسد، والذي راهن لفترة طويلة على حالة اللاسلم واللا حرب مع إسرائيل، ومن هنا فالمبلغ له تداعياته السلبية على الأوضاع الاقتصادية لنظام الأسد.
وفي ظل زيادة العجز بالموازنة العامة السورية وميزان المدفوعات، ووجود عجز شديد في الصادرات، قلت موارد النقد الأجنبي، وبالتالي شهدت العملة المحلية (الليرة) تراجعًا حادًا في قيمتها، فبعد أن كانت قيمة الدولار في نهاية 2010 بنحو 47 ليرة للدولار، قفز هذا السعر إلى نحو 84 ليرة للدولار في السوق الرسمي، وفي السوق السوداء إلى نحو 110 ليرة للدولار.
ومن الطبيعي في أجواء مشابهة للأوضاع السورية أن يتجه المواطنون للدولرة – أى تحويل الودائع المحلية الى العملات الاجنبية-، وهو ما خلق ضغوطا شديدة على الطلب على الدولار، ووجود سوقا سوداء نشطة، بسبب تخوف المواطنين من الانخفاض المستمر في مدخراتهم بالعملة المحلية، أو رغبتهم في الخروج من سورية، والتي ظهرت بوضوح من خلال تزايد أعداد المهاجرين إلى دول الجوار.
المشهد في سورية معقد من جوانبه المختلفة، ولم تلُح في الأفق أمال يمكن التعلق بها في تحسين الأوضاع، فإلى متى يمكن للمصرف المركزي في سوريا أن يستمر في حماية سعر صرف العملة الوطنية؟ خاصة وأن الاستمرار في هذه السياسة من شأنه أن يساعد على تآكل احتياطي النقد الأجنبي، والذي بلغ نحو18 مليار دولار قبل اندلاع أعمال الثورة السورية.
وقد يساعد في مساندة احتياطي النقد الأجنبي بسورية بنسبة ما، تحويلات العاملين بالخارج والمهاجرين الذين يحرصون على زيادة التحويلات لذويهم في ظل هذه الظروف المعيشية الصعبة.
على صعيد التجارة الخارجية انحسرت التجارة الخارجية لسوريا مع الدول الغربية، والتي كانت تمثل الشريك التجاري الأول لسوريا، وفي نفس الوقت فإن حركة التجارة الحالية لسوريا مع كل من لبنان والأردن والعراق، سوف تشهد أداء معاكسًا لما كانت عليه قبل اندلاع الثورة السورية، حيث كان الميزان التجاري لتعاملات سوريا مع هذه الدول لصالح سوريا.
إلا أنه في ظل الأزمة ستكون هذه الدول بمثابة منافذ للواردات السورية، وبخاصة في ظل العقوبات، سواء لصالح الحكومة السورية أو لصالح المعارضة المسلحة.
بقى أمل النظام السوري في اعتماده على الدعم الخارجي والذي يتمثل بصورة أساسية في الدعم الإيراني بشكل رئيسي، وكذلك من قبل العراق وروسيا، ولكن بالنظر إلى أطراف هذا الدعم سنجد أن إيران ستظل على دعمها للنظام السوري على الصعيد الاقتصادي، وإن كانت إيران نفسها تعاني من صعوبات اقتصادية جمة بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من جانب الغرب بسبب برنامجها النووى، ومن جانب آخر بسبب مشكلاتها الداخلية التي تشمل الجانبين الاقتصادي والاجتماعي.
ولكن هذه الظروف لن تمنع إيران من تقديم دعمها لنظام الأسد ما دامت لديه القدرة على المواجهة العسكرية في الداخل، لأن إيران تعتبر دعمها لسوريا يأتي في إطار "عقدي" بسبب المرجعية الشيعية لنظام الأسد، ولكون سوريا شريك إقليمي لإيران، فإن خسرته فسوف تراهن على بقاء الحكم الطائفي الشيعي في العراق وحزب الله في لبنان.
أما العراق ولبنان فسيكون دعمهما لسوريا في مجرد تسهيل حركة التجارة إليها، وتخفيف حدة العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظام الأسد، نظرًا لكون الأردن تفتقد إلى القدرة المالية التي تمكنها من مساعدة غيرها من الدول، حيث يعتمد الاقتصاد الأردني بصورة رئيسة على الخدمات وتلقى المساعدات الدولية.
أما العراق فلا زال يدفع فاتورة الاحتلال الأمريكي الغربي، بجانب فساد الإدارة العراقية، وانقسامها في ظل الحراك السياسي من قبل القيادات السنية، منذ شهور، وهو ما سيجعل قدرة العراق على تقديم الدعم المادي لسوريا ضعيف جدًا.
ونخلص في هذا الصدد إلى أنه إذا استمرت الأوضاع الحالية في سوريا من مواجهات، وتراجع في معدلات النشاط الاقتصادي بنفس نسب التراجع لعامي 2011 و2012، فلن يصمد نظام الأسد طويلًا. فالمسلّم به أن الدعم الخارجي يساعد على بقاء النظام لفترة محدودة، ولكنه لا يصلح لاستمرار النظام بشكل استراتيجي.
لابد هنا أن نذكر أن سورية ليست من الدول المصدرة للاستثمارات الأجنبية، بل كانت تعتمد على تلك الاستثمارات لدعم اقتصادها قبل الثورة، وبخاصة تلك الاستثمارات التي كانت تأتيها من دول عربية، فضلًا عن بعض الاستثمارات الروسية، ولكنها كانت ذات أثر محدود، لأن أغلب الاستثمارات الروسية كانت بمجالات عسكرية ونفطية.
ولكن في ظل هذه الظروف التي تمر بها سوريا، فسوف تخرج استثماراتها المحلية بطبيعة الحال للبحث عن مجال آمن، وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الاستثمارات السورية التي تبحث عن ملاذ آمن، ليست بالضرورة لسوريين معارضين، ولكن قد تكون مملوكة لمؤيدي النظام أو للنظام السوري نفسه، كما تكرر في تجارب دول أخرى عاشت ظروف مشابهة للاقتصاد السوري، مثل ليبيا والعراق في عهدى القذافي وصدام.
وبين المؤيدين والمعارضين توجد فئة من رجال الأعمال معنيين بالاستثمار سوف يساهمون أيضًا في خروج استثماراتهم من سورية.
وتعد مصر وتركيا من الساحات المفضلة للسوريين، بسبب مواقف البلدين من المهاجرين السوريين، وتلك التسهيلات التي قدمت لمن ذهب إليهما.
ولا يعني ذلك عدم اتجاه بعض الاستثمارات السورية إلى دول الجوار الأخرى مثل لبنان أو الأردن، كما تشير بعض التقديرات إلى أن استثمارات سورية توجهت إلى سوق العقارات بدبي.
ولابد أن نأخذ في الاعتبار أن الاستثمارات السورية رغم تواجدها في كل من مصر وتركيا بشكل أكبر، إلا أنها استثمارات غير مؤثرة في طبيعة اقتصاد البلدين، ففي مصر مثلًا تذهب التقديرات إلى أن حجم الاستثمارات السورية منذ اندلاع الثورة السورية وحتى الآن، لا تزيد عن نصف مليار دولار، وغالبيتها ذهب لقطاع المنسوجات، أو قطاع الخدمات في مجال المطاعم والصناعات الغذائية البسيطة.
وأقل من التقديرات الخاصة بمصر ذهبت الاستثمارات السورية إلى تركيا، في مجالات التجارة والخدمات، ولكن الاستثمارات السورية في مصر وتركيا تركز على توفير فرص عمل للمهاجرين السوريين بشكل رئيسى، نظرًا لتزايد المهاجرين السوريين في كل من مصر وتركيا.