تنص الفقرة الأخيرة من المادة 13 بالقانون رقم 53 لسنة 1973 بشأن الموازنة العامة للدولة على: "وتلتزم كل جهة بتقديم مشروع موازنتها لوزارة المالية قبل بدء السنة المالية بستة أشهر على الأقل"، ومن هنا يتبين أمر مهم، وهو أن أمر الموازنات الخاصة بالوزارات يتم بالترتيب بين تلك الوزارات ووزارة المالية، وتكون الوزارة صاحبة الاختصاص على علم تام بموازنتها في نهاية يناير من كل عام.
لكن تصريحات وزيري التعليم والصحة في مصر أمام مجلس النواب مؤخرًا، نلحظ أنها تتسم بنوع من تضليل الرأي العام، من خلال محاولة تبرئة الحكومة، والتأكيد أن المشكلة في زيادة مخصصات تلك الوزارات هي من أعمال مجلس النواب.
وهذا على غير الحقيقة، فالذي يُعدّ الموازنة ويدبر شؤونها المالية هي الحكومة وحدها، بينما دور مجلس النواب اعتماد الموازنة، فضلًا عن أن الموازنة تقدم للمجلس باسم الحكومة ككل، وإن كانت وزارة المالية تقوم بأمر إعدادها والإشراف على تنفيذها، ومن هنا فالمسؤولية عن الموازنة أمام المجلس مسؤولية تضامنية للحكومة.
وليس من حق البرلمان أن يجري تعديلًا منفردًا على مخصصات الإنفاق بالموازنة، إلا بالاتفاق مع الحكومة، وفق الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 124 من دستور 2014.
كما أن خطاب وزيري التعليم والصحة، الذي تضمن محاولة لتبرئة الحكومة، لا يعفيهما من المسؤولية أمام الشعب أولًا، ثم أمام مجلس النواب، وكون وزير التعليم يهدد بوقف مشروعات التطوير، أو إغلاق الوزارة، أو أن تعلن وزيرة الصحة بوقف تنفيذ قانون التأمين الصحي، فلا يعني ذلك إلا أن الحكومة لا تعرف واجباتها، ومن ثم هناك عدة أوجه لتهرب الحكومة من مسؤوليتها، وارتكابها لجريمة تضليل الرأي العام، والدليل:
أولًا: عرف قانون الموازنة في مادته الأولى الموازنة العامة للدولة، بأنها البرنامج المالي للخطة، وبدلًا من أن تقدم الحكومة للشعب خطتها وبرنامجها المالي المتوافق معها، تتعمد إخفاء الخطة منذ سنوات، ولا تنشر على موقع وزارة التخطيط إلا بعد مرور عام مالي كامل، ومن ثم لو كان هناك تنسيق بين خطة التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدولة والموازنة، لما وجدنا تصريحات وزيري التعليم والصحة التي أبرزها الإعلام بشكل كبير، وكأنهما بطلان قوميان، في حين أن حقيقة الأمر أنهما يقومان بعمل يضرّ بمصر ومستقبل أبنائها.
ثانيًا: في حين يفرض دستور 2014 على الحكومة أن تدرج لقطاعي التعليم والصحة ما يعادل 10% من الناتج القومي، يلاحظ أن الأرقام المعلنة في مشروع موازنة 2019/2020، تبين أن مخصصات القطاعين بحدود 185 مليار جنيه (132 مليار جنيه للتعليم، و73 مليار جنيه للصحة)، في حين أن نسبة الـ 10% التي يفرضها الدستور للقطاعين، يجب أن تكون بحدود 520 مليار جنيه، لأن بيانات وزارة المالية، تظهر أن الناتج المحلي للعام المالي 2018/2019 بحدود 5.2 تريليونات جنيه.
تحايل وعقبات تمويلية في العاصمة الإدارية الجديدة في مصر
وبدلًا من أن يعلن مجلس النواب مخالفة الحكومة لموادّ الدستور، في ما يتعلق بمخصصات وزارتي التعليم والصحة، نجد أن وزيري التعليم والصحة يظهران الأمر، وكأن مجلس النواب يملك التصرف في الإيرادات والنفقات العامة، وأنه من يدير الشأن المالي للبلاد.
ثالثًا: لا يخفى على أحد حالة تراجع الخدمات في المؤسسات الحكومية بشكل عام، وعلى رأسها قطاعا التعليم والصحة، على الرغم من الزيادة التي تشهدها مخصصات الموازنة كل عام للقطاعين، فمخصصات التعليم كانت 97 مليار جنيه في العام المالي 2015/2016 ووصلت في مشروع 2019/2020 إلى 132 مليار جنيه.
أي إن هناك زيادة 35 مليار جنيه خلال الفترة، ومع ذلك لم تحلّ مشكلات قطاع التعليم المزمنة، سواء بالنسبة لتردي مخرجات مؤسسات التعليم، وعدم جاهزيتهم لسوق العمل، أو تواضع مستويات البحث العلمي، أو غياب كفاءة المعلمين، أو الكثافات الزائدة في فصول المدارس أو بالكليات الجامعية، كما أن ترتيب مصر على مؤشر التنافسية الدولية في ما يتعلق بقطاع التعليم لا يزال في ذيل القائمة، التي تضم نحو 134 دولة، وتأتي مصر في المرتبة ما قبل الأخيرة.
أما قطاع الصحة فازدادت مخصصاته أيضًا بين عامي 2015/2016 – 2019/2020، من 43 مليار جنيه، إلى 73 مليار جنيه، في حين أن هناك حالة هرب ملحوظة للأطباء من العمل بالمؤسسات الصحية الحكومية، نظرًا لتراجع مستويات الأجور مقارنة بمعدلات الأسعار المرتفعة، ما يجعل الأطباء يفضلون العمل بالقطاع الخاص، أو السفر خارج البلاد.
ولا تعدّ الخدمات الصحّية المقدمة للأفراد بالمستشفيات الحكومية مقبولة، لكن هناك ازدحاماً بالمستشفيات، وغياب العديد من الخدمات والمستلزمات الطبية، ما يجعل الأفراد يدبرون هذه الحاجات على نفقاتهم الخاصة.
ومن هنا أصبح تقييم الإنفاق على قطاعي التعليم والصحة بمصر في المؤسسات الحكومية، مردوده ضعيف، ولا يتناسب مع الزيادات المتحققة في المخصصات بالموازنة، ما يجعل تصنيف هذا التصرف في المال العام، لا يعدو إلا أن يكون إهدارًا للمال العام.
الشماعة التي علقت عليها حكومات ما بعد الانقلاب العسكري عام 2013، لكي تمرر الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية القاسية، من خفض الدعم ورفع تكلفة كافة الخدمات الحكومية، هي زيادة الإنفاق على التعليم والصحة.
في حين أن بيانات الفقر المتعدد الأبعاد، تظهر أن الأوضاع في مصر شديدة السوء، حيث يعدّ قطاعا التعليم والصحة عنصرين مهمين من عناصر ثلاثة هي مكونات مؤشر الفقر المتعدد الأبعاد (التعليم، الصحة ومستوى الدخل)، فتقرير الأسكوا لعام 2017 أظهر أن مصر من بين 10 دول عربية، تعاني فيها نسبة 41% من الأسر من الفقر المتعدد الأبعاد، و13% من الأسر بهذه الدول تعاني من الفقر المدقع.
ويزيد من مشكلات قطاعي التعليم والصحة، أنه لا تتوفر إرادة سياسية للتقدم بهذين القطاعين، وذلك من خلال تصريحات السيسي عن التعليم وعدم جدواه في وطن يراه هو ضائعًا، أو أن سياسته تخالف القواعد العلمية المسلّم بها، من أن مشروعاته القومية تدار بدون دراسات جدوى.
كذلك تنصبّ اهتمامات الحكومة باستقدام الاستثمارات الأجنبية في قطاعي التعليم والصحة، عبر آلية الاستحواذ على منشآت القطاع الخاص، التي توجه بطبيعتها خدماتها للشريحة المرتفعة من الطبقة المتوسطة أو الطبقة الثرية.
أما الفقراء والشريحة الدنيا والمتوسطة من الشعب المصري، فعليهما أن يدبرا حاجاتهما من التعليم والصحة من خلال مواردهما الخاصة، ودون الاعتماد على الحكومة، ومن أراد أن يتعامل مع المؤسسات الحكومية بهذين القطاعين فعليه أن يقبل خدماتهما المتردية.
وختامًا، تبقى الموازنة العامة بمصر، كاشفة عن حالة فشل في إدارة ملف التنمية، بمحتوياته المختلفة الخدمي منها أو الإنتاجي، فضلًا عن سوء إدارة الموارد والمخصصات المالية، فثمة مساحات مجهولة في إدارة المال العام، ما زالت تحتاج إلى الشفافية التي تفتقدها الموازنة المصرية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك موازنات الهيئات الاقتصادية والخدمية، التي يصل عددها إلى 52 هيئة.