قرارات مصيرية تخص دولة بحجم مصر، تم اختزالها في شخص السيسي، دون دراسات كافية، أو استصحاب تقارير وأبحاث المؤسسات المصرية المتخصصة، وثمة أمثلة كثيرة منذ انقلاب يوليو 2013، أدت إلى إهدار الموارد، وتحولت إلى عبء على مصر دولة وشعبًا.
ومن أبرز تلك الأمثلة توسعة قناة السويس، وتوقيع اتفاقية سد النهضة مع السودان واثيوبيا، واتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية مع قبرص. وفي محاولة لتجميل وجه السيسي في اتفاقه باستيراد الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني مطلع عام 2018، روج إعلام السيسي بأن مصر سوف تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة، من خلال استيراد غاز الكيان الصهيوني وقبرص واليونان، ثم إعادة تصديره إلى أوروبا.
وبالفعل تم إبرام اتفاق لمدة 10 سنوات لاستيراد الغاز من الكيان الصهيوني، بقيمة 15 مليار دولار، وتم الترويج للصفقة، على أنها ستكون للتصدير، ولكن 2020 بدأت برياح كاشفة لخيبة أمل السيسي وسوء تخطيطه، بإزاحته من اتفاق أُبرم بين قبرص واليونان والكيان الصهيوني، لإنشاء خط أنابيب لتصدير الغاز الطبيعي للبلدان الثلاثة إلى أوروبا أسفل مياه البحر المتوسط، بعديًا عن الجغرافيا المصرية.
بلا شك أن الغاز الطبيعي من أهم الأوراق الاستراتيجية في ظل الحضارة الحالية، لما له من أبعاد اقتصادية وبيئية، وامتلاكه أو التحكم في مسارات تجارته، ورقة رابحة، تضيف بعدًا استراتيجيًا لمن يساهمون فيه. وخروج مصر من اتفاق (الكيان الصهيوني، وقبرص، واليونان) فرغ دور مصر من امتلاك أو التجارة في سلعة استراتيجية مهمة لأوروبا.
حتى لو سمح لمصر فيما بعد بالدخول في شراكة مع هذا التحالف المعني بتوصيل الغاز الطبيعي لأوروبا، فلن تكون هذه الشراكة أكثر من مساهمة مالية، والحصول على ما تسمح به حصة الشراكة من عوائد وأرباح، ولكن الغاز وأنبوب تصديره لأوروبا خارج نطاق الجغرافيا المصرية، وبعديًا عن أي سيطرة أو ريادة لمصر في هذا المشروع.
وكون مصر خارج هذا التحالف، خسارة استراتيجية، ولكن خسارتها لن تتوقف عن هذا الحد، ولكن اتفاقها مع الكيان الصهيوني باستيراد الغاز لفترة 10 سنوات، وبقيمة 15 مليار دولار، سوف يتحول إلى عبء على السوق المصري، ويظهر هذا بوضوح من خلال بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن النفط والغاز بمصر.
فالنشرة المعلوماتية للجهاز عن شهر ديسمبر 2019، تبين أن هناك فائضًا من إنتاج النفط والغاز خلال الفترة من أكتوبر 2018 – أكتوبر 2019، ويرجع ذلك لأمرين الأول الاتفاقيات غير المحسوب من قبل إدارة السيسي مع الشركات الأجنبية بشراء حصتها من الإنتاج في مصر، والثاني إلى حالة الركود في الاقتصاد المصري، والتي أدت إلى تراجع الاستهلاك من النفط والغاز خلال الفترة المذكورة.
ومن هنا سيكون على مصر أن تتحمل عبء استيراد الغاز من الكيان الصهيوني للسوق المحلي، وهو ما عبر عنه بصراحة ووضوح، بعض الشخصيات الإسرائيلية، من أن الغاز المصدر لمصر للسوق المحلي. فماذا ستصنع مصر في الغاز المستورد؟
هل سيتم تخزينه لديها لحين حدوث حالة رواج؟ أم سيتم تصديره بنفس التكلفة أو ممارسة دور دولة مبارك، بالدخول في دوامة خسائر تجارة الطاقة؟ أم ستلجأ إلى مفاوضات جديدة مع الكيان الصهيوني حول اتفاق استيراد الغاز، لتأجيل بدء ضخ الغاز لمصر؟ أم ستدفع شرطًا جزائيًا وتلغي الصفقة؟
أما سيناريو التخزين، فهو مكلف جدًا من الناحية الاقتصادية، بسبب أنه لا يلوح في الأفق خروج مصر من ركودها الاقتصادي في الأجلين القصير والمتوسط، فمناخ الاستثمار في مصر، يمر بمرحلة شديدة السلبية، بسبب سيطرة شركات الجيش على الكثير من المقدرات الاقتصادية المدنية، واختزال دور القطاع الخاص في العمل من خلال مقاولي الباطن في المشروعات التي يسيطر عليها الجيش.
وكذلك حالة التوتر السياسي والأمني بالمنطقة ككل، وحالة الحشد الإعلامي غير الرشيد بمصر تجاه الازمة في ليبيا، وكأن مصر ليس أمامها سوى الدخول في حرب مع تركيا، بسبب التواجد التركي في ليبيا، وهي أجواء كفيلة بهروب رؤوس الأموال، وتأجيل قرارات الاستثمار، سواء المحلي أو الأجنبي.
وبالتالي فحلم مصر بأن تكون مركز إقليمي للطاقة تبدد في ظل قرارات غير مدروسة، وإدارة مصر من خلال تصرفات قائد الانقلاب العسكري، وتهميش المؤسسات صاحبة الخبرة. والآن مصر تدفع ثمن تصرفات هوجاء، بسبب السعي الحثيث لقائد الانقلاب لتثبيت أركان نظامه عبر تعظيم مصالح الكيان الصهيوني.
وحقيقة الأمر أن حلم مصر بأن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة في الشرق الأوسط، كان ادعاء في غير محله، حيث إن حقيقة الأمر أن مصر هي من أصبحت سوقًا رابحًا للشركات الأجنبية العاملة في مجال النفط والغاز، حيث استولت شركات ايني الإيطالية والشركة البريطانية للغاز على معظم حقول الغاز الطبيعي بشروط مجحفة ضد مصر، وحققت هذه الشركات مكاسب كبيرة، نظير حصول مصر على مكاسب محدودة.