الملامح العام للموازنة الجديدة
عدم دستورية الموازنة
المبالغة في تخفيض العجز
تقدير غير حقيقي للإيرادات
غياب شواهد زيادة النمو
اقترب يونيو/حزيران 2015 من الانتهاء وتنتظر مصر في مطلع الشهر المقبل العمل بموازنة العام المالي 2015/2016، ولم تعلن حكومة القاهرة بعد مشروع الموازنة الجديدة لكي تتم مناقشتها على الأقل من قبل المجتمع المدني في ظل غياب البرلمان الذي يعد الجهة الأصيلة المخولة باعتماد الموازنة حسب المادة 124 من دستور العام 2014 الذي أقرته سلطات الانقلاب.
فكل ما صدر عن الحكومة ممثلة في وزارة المالية بيان صحفي يتضمن موافقة الحكومة على مشروع الموازنة، والإشارة إلى بعض الأرقام، فالبيان المالي عن الموازنة الذي يعد الحد الأدنى من إتاحة البيانات والمعلومات عن الموازنة لم ينشر بعد على المواقع الإلكترونية لوزارة المالية، أو أي من المواقع الحكومية.
والمغالطة التي تصر الحكومات المصرية على ممارستها بشكل يخالف المنطق العلمي والممارسة السياسية الصحيحة لا تزال قائمة، إذ يتم الحديث عن الموازنة العامة للدولة، في حين الأصل أن تعرض الخطة العامة للدولة التي هي أصل التقويم والتي تبين الأداء الاقتصادي الحقيقي للحكومة.
وتعتبر الموازنة مجرد برنامج مالي للخطة، فتتغاضى الحكومة عن عرض الأصل وهو الخطة، وتلهي المواطنين والساسة بمجموعة من الأرقام حول مخصصات بعض البنود.
"
الموازنة تعتبر مجرد برنامج مالي للخطة، فتتغاضى الحكومة عن عرض الأصل وهو الخطة، وتلهي المواطنين والساسة بمجموعة من الأرقام حول مخصصات بعض البنود
"
تقدر النفقات في مشروع الموازنة بـ885 مليار جنيه (116 مليار دولار)، في حين قدرت الإيرادات بـ612 مليار جنيه (ثمانون مليار دولار)، وبذلك يبلغ العجز النقدي 273 مليار جنيه (35.7 مليار دولار)، في حين أشارت وزارة المالية إلى أن العجز يقدر بـ281 مليار جنيه (36.8 مليار دولار).
ويحتمل أن يكون هذا التقدير يخص العجز الكلي، والمطلوب من الوزارة أن تضبط المصطلحات المستعملة حتى لا يحدث لبس للقارئ، خاصة أن البيان منشور على موقع الوزارة وليس منقولا عن جريدة أو أي وسيلة إعلامية أخرى.
وقدر الإنفاق على التعليم بـ120 مليار جنيه (15.7 مليار دولار)، وعلى الصحة بـ64 مليار جنيه (8.4 مليارات دولار)، وعلى الأجور والمرتبات بـ228 مليار جنيه (29 مليار دولار)، في حين بلغت فوائد الدين العام قرابة 250 مليار جنيه (32.7 مليار دولار).
كما شملت النفقات المقدرة 11.2 مليار جنيه (1.4 مليار دولار) لفائدة معاشات الضمان الاجتماعي، و4.2 مليارات (550 مليون دولار) لدعم التأمين الصحي، و38.4 مليارا (خمسة مليارات دولار) لدعم منظومة الخبز والسلع الغذائية، و13.7 مليارا (1.8 مليار دولار) لبرنامج توفير وتأهيل الإسكان الاجتماعي، و1.3 مليار (170 مليون دولار) لتطوير السكن العشوائي.
وضمن إجمالي الإيرادات يتوقع مشروع الموازنة عائدات ضرائب بقيمة 422 مليار جنيه (55.3 مليار دولار)، و26.9 مليار جنيه (3.5 مليارات دولار) عائدات جمركية، و2.2 مليار جنيه (288 مليون دولار) عبارة عن منح خارجية.
كما أشار بيان وزارة المالية إلى توقع تسجيل نمو اقتصادي بحدود 5% مقارنة بـ4.2% متوقعة في العام المالي 2014/2015.
وقد لوحظ وفق ما هو متاح من معلومات حول الموازنة وجود مجموعة من المغالطات نشير إلى بعض منها:
ينص دستور العام 2014 الذي وضع في ظل الانقلاب العسكري في الفقرة الأولى من المادة 124 على أن "تشمل الموازنة العامة للدولة كافة إيراداتها ومصروفاتها دون استثناء، ويعرض مشروعها على مجلس النواب قبل تسعين يوما على الأقل من بداية السنة المالية، ولا تكون نافذة إلا بعد الموافقة عليها، ويتم التصويت عليها بابا بابا".
"
إلى غاية كتابة هذه السطور لم يتم اعتماد الموازنة، وإنما فقط عرضت على مجلس الوزراء، ليتم تقديمها للرئيس المصري، وبالتالي فقد مشروع الموازنة أحد شروطه الدستورية، وهو تقديمه قبل بداية العام المالي بثلاثة أشهر على الأقل
"
وقد عرض مشروع الموازنة على الحكومة في 18 يونيو/حزيران الجاري، في حين الواجب أن تعرض على مجلس النواب أو من يقوم بمهامه في حالة غيابه في موعد أقصاه الأول من أبريل/نيسان من كل عام.
ولكن إلى غاية كتابة هذه السطور لم يتم اعتماد الموازنة، وإنما فقط عرضت على مجلس الوزراء، ليتم تقديمها للرئيس عبد الفتاح السيسي، وبالتالي فقد مشروع الموازنة أحد شروطه الدستورية، وهو تقديمه قبل بداية العام المالي بثلاثة أشهر على الأقل، وسوف يفتح هذا الأمر الباب على مصراعيه أمام احتمال الطعن في دستورية مشروع الموازنة.
يتضمن مشروع الموازنة عجزا بنحو 9.5% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بعجز متوقع في نهاية 2014/2015 بنسبة 10.8%، وهو ما يستحيل قبوله عقلا في ظل تراجع الإيرادات، وكذلك تراجع الحكومة في تنفيذ حزمة من القوانين الخاصة بالضرائب، وكذلك السماح باستثناءات تؤثر على الإصلاح المالي بشكل عام، وعلى الموازنة بشكل خاص.
ومن التدابير المشار إليها تأجيل العمل بالضريبة الخاصة بالأرباح المتحققة من الاستثمار في البورصة، واستثناءات عقارات الجيش من الضريبة العقارية، وإلغاء العمل بالحد الأقصى للأجور للقضاء وموظفي البنوك العامة، فضلا عن تراجع حصيلة الضريبة العقارية لنحو مليار جنيه (131 مليون دولار) بدلا من إيرادات متوقعة بـ3.5 مليارات جنيه (458 مليون دولار).
في أبريل/نيسان 2015 توقع رئيس مصلحة الضرائب مصطفى عبد القادر أن تناهز إيرادات الضرائب في نهاية العام المالي 2014/2015 نحو ثلاثمئة مليار جنيه (39.9 مليار دولار) فقط، بتراجع نسبته 17.6% عن تقديرات الموازنة، ويذكر أن الإيرادات الضريبية تشكل 66% من إجمالي موارد خزينة الدولة.
كما يلاحظ تراجع المنح الخارجية في مشروع الموازنة، إذ انتقلت من 57 مليار جنيه (7.4 مليارات دولار) في موازنة 2014/2015 إلى 2.2 مليار جنيه (288 مليون دولار) في الموازنة الجديدة.
وهناك أعباء أخرى ستؤثر على إجمالي الإيرادات العامة، فعلى سبيل المثال مشروع توسعة قناة السويس حمل الموازنة الحالية قرابة 7.5 مليارات جنيه (قرابة مليار دولار)، وسيستمر ذلك لأربع سنوات قادمة، في حين أن الإيرادات المتوقعة لتوسعة القناة لن تزيد على مئة مليون دولار سنويا حسب تصريحات رئيس هيئة القناة إيهاب مميش في سبتمبر/أيلول 2014.
"
من أين أتى نمو بنسبة 4.2% في العام الحالي، وكيف سيزيد في العام المقبل إلى 5%، في حين تشكو المصانع من نقص الغاز، وعدم توفر العملة الصعبة للاستيراد، كما أن صادرات البلاد غير السلعية تراجعت بنحو 20%
"
وبتحمل هيئة قناة السويس قرض تمويل مشروع التوسعة وكذلك تحمّل أعباء تكلفة التمويل فإن إيرادات قناة السويس التي كانت ترحل لصالح الموازنة ستشهد تراجعا على مدار السنوات الأربع القادمة، كما ستواجه الدولة في نهاية العام 2018/2019 عبء سداد 64 مليار جنيه (8.3 مليارات دولار) هي قيمة السندات التي أصدرت في العام 2014 من أجل تمويل مشروع التوسعة.
تتوقع وزارة المالية أن يصل معدل النمو إلى 5% في العام 2015/2016 مقارنة بـ4.2% في العام المالي الحالي، ولا توجد شواهد على هذا النمو لا من حيث مصادره ولا من حيث مظاهره.
من أين أتى نمو بنسبة 4.2% في العام الحالي، وكيف سيزيد في العام المقبل إلى 5%، في حين تشكو المصانع من نقص الغاز، وعدم توفر العملة الصعبة للاستيراد، كما أن صادرات البلاد غير السلعية تراجعت بنحو 20% في الفترة بين يوليو/حزيران 2014 إلى مارس/آذار 2015.
وفي حين يتحدث بيان وزارة المالية عن نسبة العجز للناتج المحلي، وكذلك نسبة نمو هذا الناتج، إلا أنه لم تتم الإشارة قط إلى قيمة هذا الناتج!
تناول بيان الموازنة العديد من بنود الإنفاق بالتفصيل، وألحقها بعبارات إنشائية مثل الحماية الاجتماعية وزيادة معدلات النمو، ولم يذكر الفوائد المستحقة على الدين العام في رقم واضح ومنفصل، ولكنه ذكر الآتي "ويمثل الإنفاق على الأجور ومصروفات فوائد الدين العام مجتمعة نحو 54% من إجمالي الإنفاق العام".
وبتحليل هذه النسبة نستنتج أن إجمالي فوائد الدين العام تبلغ 250 مليار جنيه (32.7 مليار دولار)، ويتبين بذلك أن هذه الفوائد تفوق الإنفاق على الأجور بنحو عشرين مليار جنيه (2.6 مليار دولار)، وتعادل ضعفي الإنفاق على التعليم البالغ 120 مليار جنيه (15.7 مليار دولار)، وتشكل أربع مرات الإنفاق الصحي 65 مليار جنيه (8.5 مليارات دولار)، وثلاث مرات ونصف الإنفاق على الاستثمارات العامة البالغ 75 مليار جنيه (9.8 مليارات دولار).
إن الطريقة التي تم التعامل بها مع الموازنة العامة الجديدة تسهم في المزيد من التراجع في ترتيب مصر على مؤشر شفافية الموازنة العالمي الذي يصدر كل عامين، إذ اقتصر أمر إعداد ومناقشة واعتماد الموازنة على السلطة التنفيذية دون مشاركة المجتمع المدني.