طلب المستحيل أصبح أحد مظاهر أداء الإدارة الاقتصادية في مصر من أجل حل المشكلات الاقتصادية المتفاقمة، فمرة يعلن السيسي أن مصر تحتاج موازنة قدرها تريليون دولار لكي تستطيع الحكومة توفير الخدمات المطلوبة للمجتمع بشكل جيد، أو تحتاج إلى استثمارات بقيمة 100 مليار دولار، خلال السنوات الخمس المقبلة، لسد الفجوة الدولارية المقدرة بـ30 مليار دولار في السنة.
وكانت مصر قد حققت استثمارات منفذة في عام 2021/ 2022 بنحو 850 مليار جنيه، للقطاعين العام والخاص (تعادل 45.6 مليار دولار حسب سعر صرف 18.6 جنيهاً للدولار)، وبالتالي ما لم تتحقق هذه المطالب، فالوضع الاقتصادي المتراجع، ليس مسؤولية النظام كما يردد، وكأنّ مشكلات مصر الاقتصادية لا ينقصها إلّا المال، فأين باقي المشكلات التي تعيق انطلاق الاقتصاد؟ أين معدلات الفساد الكبيرة التي تتزايد عاماً بعد آخر؟
فوفق بيانات مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2022، والذي بين أن مصر أتت في الترتيب 130 من بين 180 دولة شملها المؤشر، وتراجعت درجتها على المؤشر إلى 30 درجة من 100 درجة هي مجموعة درجات المؤشر.
إن الوضع الملائم، والذي يتناسب مع إدارة اقتصادية كفؤة، أن تعلن الخطة البديلة، في حالة ما لم تتحقق تمنيات الحكومة في الحصول على 100 مليار دولار لتنفيذ الاستثمارات اللازمة خلال السنوات الخمس القادمة، في هذه الحالة، ماذا ستفعل؟ وما هي الآثار المترتبة على الخطة البديلة؟ وماذا الذي سيتحمله المواطن، وماذا الذي ستتحمله الدولة؟ وما هو مصير الفجوة الدولارية في ظل العمل وفق الخطة البديلة؟
ثمة مشكلات كثيرة يمكن الإشارة إليها، مثل عجز الميزان التجاري، والمديونية العامة، وعجز الموازنة، والفجوة الكبيرة بين الأسعار والأجور، والفجوة الغذائية وبخاصة في مجال الحبوب، واتساع رقعة الفقر والهجرة غير الشرعية. لكن هناك مشكلة أخرى تتعلق بالاستثمار، وإمكانية الوصول إلى المبلغ المعلن من قبل السيسي على مدار 5 سنوات.
تظهر بيانات وزارة المالية، من خلال التقرير المالي الشهري، أن هناك فجوة بشكل دائم بين المدخرات والاستثمارات المحلية، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، على مدار عقود، لكن هنا سنكتفي بالفترة من 2017/ 2018 – 2021/ 2022، حيث يبين التقرير المالي لشهر ديسمبر/كانون الأول 2022، أن الفجوة بين المدخرات والاستثمارات المحلية كنسبة من الناتج المحلي خلال الفترة هي 9.9%، و7.9%، 7.2%، 8.8%، و6.8%. ومن هنا يأتي تفسير اعتماد الاقتصاد المصري على الديون لتمويل هذه الفجوة، سواء كان هذا التمويل من مصادر محلية أو أجنبية.
ويتوقع، في ظل ما جرى في العام المالي 2022/2023 من انخفاض قيمة الجنيه المصري، وغير ذلك من سياسات نقدية ومالية، أن تنخفض المدخرات المحلية بشكل كبير، وذلك نتيجة ارتفاع معدلات الفقر، وفقدان شريحة من المواطنين القدرة على الادخار.
ويعود ضعف مدخرات المصريين إلى العديد من الأسباب، وبخاصة بعد يوليو/تموز 2014، حيث جرى رفع العديد من صور الدعم السلعي والخدمي عن المواطنين، وجرى أيضاً فرض المزيد من الضرائب، وصاحبت ذلك معدلات تضخم حدثت غير مرة في ظل تراجع قيمة الجنيه.
كثيرة ما عولت مصر على الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وأعطت العديد من المزايا والحوافز، ولكن ظل نصيب مصر من تلك الاستثمارات لا يلبي طموحاتها ولا يؤدي إلى أداء له أثر ملموس على المؤشرات الاقتصادية الكلية لمصر. فمثلًا، لا يوجد دور كبير لتلك الاستثمارات في زيادة الصادرات السلعية، كما لا يوجد لها دور ملموس في زيادة فرص العمل، أو توطين التكنولوجيا، بل وجهت اتهامات لتلك الاستثمارات بأنها ركزت بشكل كبير على السوق المحلي، وكثيراً ما زاحمت الصناعة المحلية، أو عملت على احتكار بعض السلع المهمة، كما حدث في قطاع صناعة المنظفات، أو قطاع الأسمنت.
ووفق بيانات التقرير السنوي للبنك المركزي عن العام المالي 2019/2020، بلغ صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في نفس العام 7.5 مليارات دولار، استحوذ قطاع النفط على نصيب الأسد منها بنسبة 45.9%، وهي حصة متواضعة مقارنة بنصيب القطاع على مدار السنوات الماضية، التي كانت حصتها تصل فيها إلى نسبة تتراوح ما بين 65% و70%.
ثم يأتي في المرتبة الثانية قطاع الخدمات بنسبة 29.7%، كان لقطاع الخدمات المالية منها نسبة 14.1% (البنوك، والمؤسسات المالية الأخرى)، ثم باقي الحصة لقطاعات الخدمات في النشاط العقاري والسياحي والاتصالات.
وللتدليل على الأثر السلبي لوجود الاستثمارات الأجنبية في مصر، يبين لنا تقرير وزارة المالية في ديسمبر 2022، أن ما قامت به تلك الشركات الأجنبية من تحويلات لأرباحها بالنقد الأجنبي إلى الخارج في عام 2017/2018 كان بحدود 7.1 مليارات دولار، ارتفع في عام 2021/2022 إلى 16.7 مليار دولار، وهو ما يعني أن هذه الشركات حققت عكس ما تأمله مصر، لكون هذه الشركات أحد مصادر استنزاف موارد مصر الدولارية المحدودة.
إنّ مصر بصدد طرح عدد كبير من مؤسساتها الإنتاجية والخدمية العامة للبيع، سواء بشكل كلي أو جزئي، ولكن لا يعني ذلك أن عملية البيع سوف تضيف أصولاً رأسمالية جديدة، فتجربة الدولة المصرية، أنها تتصرف في حصيلة الخصخصة لتمويل عجز الموازنة أو سداد الديون. وما أحوج مصر الآن إلى بناء قاعدة إنتاجية قوية، وبخاصة في قطاعي الزراعة والصناعة، حتى يمكنها بالفعل سداد فجوتها الدولارية، وتحسين العديد من مؤشراتها الاقتصادية الكلية.
يعد مناخ الاستثمار هو المحدد الأكبر لاستقدام الاستثمارات الأجنبية، وهناك مؤشرات ثابتة ينظر إليها المستثمر قبل اتخاذ قرار الدخول إلى أي دولة للاستثمار فيها، مثل مدى الاستقرار السياسي والاقتصادي، وبخاصة وجود دولة قانون، واستقرار التشريعات الاقتصادية، وهذا الأمر عرفت فيه مصر وجود مجلس للنواب أنهى دورة ولا زالت الدورة الثانية قائمة، ولكن يلاحظ أن الأداء البرلماني يأتي في ضوء رغبات الحكومة ولا يمثل الدور الرقابي على السلطة التنفيذية، نظرًا للطريقة غير الحرة التي أتى بها أعضاء البرلمان.
ومن المنتظر أن تشهد مصر انتخابات رئاسية في عام 2024، ويثور حول هذه الانتخابات الكثير من الأسئلة، بشأن إمكانية أن تحدث تغيراً أم لا؟ فضلاً عن إمكانية تمتعها بالحرية والنزاهة اللازمتين، بخاصة أنّ الانتخابات الرئاسية الماضية لم تتوفر لها هذه الضمانات.
ومما ينظر إليه المستثمر الأجنبي، مدى استقرار سعر الصرف ومعدلات التضخم، واليد العاملة الماهرة، ومدى مرونة النظام الإداري الحكومي، وثم قلاقل بشأن سعر الصرف ومعدل التضخم بمصر خلال المرحلة المقبلة.
أما اليد العاملة الماهرة، فما زالت مؤسسات التعليم بمصر تعاني من مشكلتها الرئيسة والبارزة في كافة الدراسات التي تتناول عملها، وهي مشكلة عدم ربط مؤسسات التعليم باحتياجات سوق العمل، وكذلك غياب نصيب التدريب في البرامج التعليمية بمصر.
إن تعليق أمر سد الفجوة الدولارية على شرط الحصول على استثمارات بنحو 100 مليار دولار، على ما يبدو، سيكون بعيد المنال، وبالتالي ستستمر الفجوة الدولارية، وستدور مصر بفلك المديونية العامة، وما ينتج عنها من أعباء على كاهل الموازنة العامة.
ويبقى السؤال، متى تقدم الحكومة المصرية برامج مستدامة قابلة للتحقيق، للتخلص من مشكلاتها الاقتصادية، لتبدل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين للأفضل؟