"ضجيج بلا طحين" مقولة تصدق على واقع أداء الحكومة المصرية في قطاع الطاقة، فما من يوم يمر إلا وهناك خبر اكتشاف آبار جديدة، أو توقيع اتفاقية، أو افتتاح لمشروعات تتعلق بالغاز الطبيعي، ولكن مع ذلك لم تتحسن أوضاع الطاقة في مصر، بالنسبة للمواطن.
فما تحقق من تحسين لأداء محطات إنتاج الكهرباء، كان من خلال القروض الخارجية وتنفيذ الشركات الأجنبية لتلك المحطات، فضلا عن أن الوقود المستخدم في إنتاج الطاقة يعود في جزء كبير منه للاستيراد، ولا يُغطى بالكامل من الإنتاج المحلي من النفط والغاز.
وحسب بيانات وزارة البترول المصرية، فإن مصر حققت زيادة غير مسبوقة في إنتاج الغاز الطبيعي خلال السنوات الخمس الماضية، حيث وصل متوسط الإنتاج اليومي 4 مليارات قدم مكعبة يوميا في عام 2015، وارتفع إلى 7.1 مليارات قدم مكعبة يوميا في سبتمبر/أيلول 2018، وهو ما دعا الحكومة آنذاك أن تعلن اكتفاء مصر ذاتيا من الغاز الطبيعي.
وفي 16 سبتمبر/أيلول 2020، أعلنت شركة إيني الإيطالية، عن اكتشاف كبير للغاز الطبيعي بمصر، في منطقة نورس الكبرى بالبحر المتوسط، وحسب البيان الصحفي للشركة، ستصل كميات الغاز الطبيعي لمنطقة نورس الكبرى، والتي تضم أكثر من بئر للغاز الطبيعي إلى نحو 4 تريليونات قدم مكعبة، ويملك حق الامتياز في منطقة أبو ماضي التي تقع فيها آبار نورس الكبرى، كل من شركة إيني (Eni) الإيطالية بنسبة 75%، والشركة البريطانية بنسبة 25%.
واللافت للنظر أن الإعلان عن اكتشافات الغاز الطبيعي في مصر لا تتوقف، من قبل شركة إيني والشركة البريطانية، فقد تتعدد الآبار، ولكنها بالمنطقة نفسها، وهو ما يشكك في عمليات الاكتشاف الجديدة، ويعد نوعا من تسويق الشركات لنفسها، وكذلك التسويق للنظام المصري، بأن هناك ثمة منجزات، من شأنها أن تنقل مصر لمصاف الدول المنتجة والمصدرة للطاقة بكميات كبيرة، أو تعمل على تغيير الوضع الاقتصادي لمصر، وتحويلها لدول النفط الثرية.
وحسب زعم وزارة البترول المصرية، فإن الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي تحقق في سبتمبر/أيلول 2018، وبعد عامين من هذا الإنجاز لم يجد المواطن أي أثر إيجابي لذلك، فما زالت فواتير استهلاك الكهرباء، أو فواتير استهلاك كافة المواد البترولية باهظة وتلهب ظهور المواطنين، وبخاصة أن دخولهم شبه ثابتة.
وحسب قواعد العرض والطلب، فإن استهلاك الطاقة في مصر من النفط والغاز الطبيعي في تراجع على مدار عام خلال الفترة من "مايو/أيار 2019 – مايو/أيار 2020″، وذلك حسب النشرة المعلوماتية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن شهر يوليو/تموز 2020، وهو ما يعني أن هناك فائضا، وينبغي أن تنخفض الأسعار بالنسبة لعموم السوق نتيجة زيادة العرض عن الطلب، أو زيادة الإنتاج عن الاستهلاك، سواء كان الاستهلاك للصناعة أو الزراعة، أو لاستهلاك المنازل، أو وسائل المواصلات.
ولكن يلاحظ أن مصر تشهد خلال الفترة الماضية، استمرار رفع أسعار الكهرباء بالمنازل، وشكوى أصحاب المصانع من ارتفاع تكلفة الحصول على وقود الغاز الطبيعي، مما يفقدهم ميزة انخفاض تكلفة منتجاتهم في السوقين المحلية والدولية.
ففي مايو/أيار 2019 كان إنتاج مصر من النفط والغاز، نحو 7 ملايين طن شهريا في المتوسط، بينما كان الاستهلاك بحدود 6.5 ملايين طن، ولكن في مايو/أيار 2020 نجد أن إنتاج مصر من الوقود نحو 6.2 ملايين طن، بينما الاستهلاك 5.7 ملايين طن.
وبلا شك أن دلالات تراجع الاستهلاك من الطاقة في مصر، يرجع لحالة الركود التي يعاني منها الاقتصاد المصري غير النفطي، على مدار سنوات، ومن جهة أخرى يرجع انخفاض الاستهلاك لارتفاع فواتير أسعار الطاقة في ظل عدم قدرة المنتجات المصرية على منافسة مثيلاتها الأجنبية.
المحير في الأمر، أنه على الرغم من تعدد الاكتشافات من الغاز الطبيعي، والإعلان عن كميات كبيرة من الإنتاج، فإنه ليس ثمة أثر لها على حياة المواطن المصري، فعلى صعيد أسعار الطاقة، يدفع المواطن فواتير تتصاعد قيمتها على فترات قصيرة.
وعلى صعيد الحياة العامة ومستوى الخدمات الأخرى -بفرض أن النظام المصري يوظف عوائد الغاز في توفير خدمات أفضل في مجالات التعليم والصحة والبنية الأساسية- فالواقع يكشف عكس ذلك تماما، وكان خير دليل ما تم في أزمة كورونا، حيث كان المواطنون يدفعون ثمن المسحات للكشف عن مدى إصابتهم بالفيروس أم لا، ووجود عجز كبير في المستلزمات الطبية داخل المستشفيات العامة.
فضلا عن أعباء المعيشة التي تزداد كل يوم، وارتفاع الرسوم الحكومية على الخدمات التي تقدمها للمواطنين، بل والأدهى أن الدَّين العام يتزايد بشكل كبير، ولا يجد الرئيس عبد الفتاح السيسي أي غضاضة في إعلانه الاستمرار في سياسة الاستدانة خلال الفترة المقبلة.
فإذا كان المواطن لا ينعم بعوائد الغاز الطبيعي في شكل انخفاض أسعار الوقود، ولا يشعر بتحسن في مستوى الخدمات العامة، ولا يشعر بدعم السلع والخدمات الحكومية، وفي الوقت ذاته تتوسع الحكومة في الاستدانة المحلية والخارجية، فأين ذهبت عوائد تصدير الغاز الطبيعي، بل وماذا تعني الإعلانات عن اكتشافات جديدة من الغاز الطبيعي للمواطن؟
كانت الصدمة كبيرة للمصريين خلال الأيام الماضية، بعد تصريح أيمن سليمان المدير التنفيذي للصندوق السيادي المصري، بالتفاوض حول بيع الكهرباء المنتجة بمصر لدول أوروبية وأفريقية بسعر 2.4 سنت أميركي للكيلو وات، وهو ما يعادل أسعار الشريحة الأولى للاستهلاك بمصر، أو أقل، وهو ما يعني أن مصر تدعم المواطن الأجنبي، بينما سياسة الحكومة أن يدفع المواطن السعر العالمي لاستهلاكه الكهرباء في مصر.
وهي سياسة تستوجب المساءلة، ولكن القانون الخاص الذي صدر به الصندوق السيادي، حصّن قراراته من الطعن أمام أية محكمة، أو جهة رقابية، وأعطيت سلطات مطلقة لرئيس الجمهورية، باعتبار الصندوق يقع تحت إشرافه.
وعلى ما يبدو أن السيسي عبر قانون الصندوق السيادي، أراد أن يتحاشى المساءلة عن الفساد في قطاع الغاز الطبيعي، كما حدث في عهد مبارك، حيث حرص المرحوم السفير إبراهيم يسري ومعه نخبة من السياسيين، على إقامة دعوى قضائية ضد الفساد في صفقة الغاز مع إسرائيل.
في ظل الإعلان عن الاكتشافات الكبرى -على مدار خمس سنوات مضت في عهد السيسي- للغاز الطبيعي في مصر، وادعاء الاكتفاء الذاتي، كان المتوقع أن يتحسن وضع الميزان التجاري في قطاع الطاقة بمصر، ولكن الأرقام التي تعكسها بيانات ميزان المدفوعات للفترة من "يوليو/تموز 2019 – مارس/آذار 2020" تكشف عن عجز، حيث بلغت الصادرات النفطية عن تلك الفترة نحو 7.3 مليارات دولار، بينما الواردات بلغت 8.1 مليارات دولار، أي أن العجز بلغ نحو 800 مليون دولار.
وإذا ما استبعدنا حصة الشريك الأجنبي من قيمة الصادرات النفطية المصرية، فسيكون العجز أكبر من تلك القيمة بكثير، وبخاصة أن حصة الشريك الأجنبي في الحقول المكتشفة في عهد السيسي، مرتفعة وتصل إلى 40%.
وفي الختام، يمكن القول إن ملف الغاز الطبيعي بمصر، هو بمثابة صندوق أسود، تنقصه الشفافية، ففي حين بشّرت حكومة السيسي بالاكتفاء الذاتي بعد اكتشاف حقل ظهر، أبرمت اتفاقا لاستيراد الغاز من إسرائيل، ولم يكن الغاز المستورد من تل أبيب للتصدير كما ادعى السيسي، بل للاستهلاك المحلي كما أعلن المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم