شهدت الأوضاع الاقتصادية في مصر الكثير من التراجع على مستوى معيشة الأفراد منذ وقوع الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013، وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي وحكوماته المتعاقبة يعدون الناس بتحسين أوضاعهم المعيشية، بينما الواقع يحمل الأفراد إلى مزيد من الفقر وارتفاع أسعار السلع والخدمات.
وبدلا من التخفيف عن الأفراد في تحمل أعباء معيشتهم، تحولت وعود السيسي وحكوماته إلى مطالبة الناس بالصبر على ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وكانت المحصلة النهائية لذلك انتقال أعداد ليست بالقليلة من الطبقة المتوسطة في مصر إلى الطبقة الفقيرة.
ولم يشعر الناس بما تعلنه الحكومة من تحسن في الناتج المحلي الإجمالي أو زيادة معدلات النمو، فظل الحصول على عمل مستقر ومناسب حلما بعيد المنال. وذلك لأن عدد المهاجرين المصريين ارتفع في عهد السيسي من 6 ملايين مهاجر في 2013 إلى 10.5 ملايين في 2018، غالبيتهم هاجر للبحث عن فرصة عمل أو تحسين معيشته.
وكلما اتخذ السيسي وحكومته قرارات تتعلق برفع الدعم عن السلع والخدمات، أو كلما تمكن الفقر من المجتمع بزيادة أعداد الفقراء أو المعرضين للفقر إلى نسبة 60% من المجتمع المصري، تساءل الخبراء: متى يؤثر الوضع الاقتصادي على سلوك الناس تجاه نظام السيسي وخروجهم للشوارع؟
إلا أن الحراك الذي شهدته مصر في سبتمبر/أيلول 2019 كان مقدمة لإظهار حالة الضجر لدى الأفراد بشكل كبير تجاه السياسات الاقتصادية والاجتماعية في عهد السيسي.
وإن كان حراك 2019 لم يزد على يوم أو يومين، فإن الوضع في سبتمبر/أيلول 2020 كان مختلفا، حيث خرجت الاعتراضات على تصرفات الحكومة بشكل عفوي ومن مناطق لم يتوقع احتجاج أبنائها، واستمر الحراك عدة أيام وفي مناطق مختلفة وإن كانت محصورة في قاع الريف والمناطق العشوائية.
كانت الرسالة الواضحة بأن الحكومة فشلت في برامجها الاقتصادية والاجتماعية، وأنها تعتمد على عصا الأمن لمنع الناس من الاحتجاج والتظاهر، ومع ذلك تجاوز الناس هذه المخاوف في احتجاجات سبتمبر/أيلول 2020، ليعلنوا أن النظام بكل مكوناته مرفوض، بدءا من رأس السلطة وحتى أصغر موظف فيه، فضلا عن فشل الإعلام في التسويق لنظام السيسي الذي أغدق فقرا وأغرق البلاد في دوامة من الديون قد تحتاج عقودا للتخلص من تبعاتها، إذا ما حظيت مصر بحكومة ديمقراطية لها رؤية تنموية، للمرور بها من ربقة التخلف والتبعية.
استثمارات الأجانب في مصر، نوعان: الأول يتعلق بالاستثمار في أذون الخزانة (الدين العام للحكومة)، والثاني الاستثمار المباشر.
النوع الأول -وهو استثمارات الأجانب في أذون الخزانة- معرض بشكل كبير للتأثير السلبي السريع بسبب حراك 20 سبتمبر/أيلول 2020، على الرغم من محدودية الحراك إلى الآن.
فطبيعة استثمارات الأجانب في الديون الحكومية بشكل عام تصنف على أنها استثمارات ساخنة، تهرب من البلدان التي توجد فيها في أقرب وقت إذا ما شعرت بخطر سياسي أو وجدت فرصة أفضل في الأسواق الأخرى.
ونظرا لعدم استقرار الوضع السياسي في مصر، فقد تراجعت استثمارات الأجانب في أذون الخزانة حسب بيانات النشرة الإحصائية للبنك المركزي في أغسطس/آب 2020، حيث انتقلت من أكثر من 276 مليار جنيه (16.5 مليار دولار، حسب سعر الصرف 16.6 جنيها للدولار) في يوليو/تموز 2019، لتهبط إلى 117 مليار جنيه (10.8 مليارات دولار، حسب سعر صرف 15.8 جنيها للدولار) في يوليو/تموز 2020.
ويتوقع مع حراك سبتمبر/أيلول 2020 أن تشعر هذه الاستثمارات بحالة من عدم الأمان، وسوف يخرج الكثير منها خلال الفترة القصيرة القادمة، وسيظهر ذلك في البيانات الخاصة بشهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني من العام الحالي.
ومشكلة نظام السيسي مع خروج استثمارات الأجانب من أذون الخزانة، أن البنك المركزي المصري يستخدم هذه الأموال لحماية سعر الجنيه المصري، ولذلك سيلجأ المركزي المصري للبوابة الأخرى لحماية سعر الصرف، وهي الاقتراض من الخارج، ولذلك وجدنا وسائل الإعلام تنشر أحدث القروض المصرية بنحو 750 مليون يورو من بنك الاستثمار الأوروبي.
والجدير بالذكر أن مدفوعات مصر الخارجة عن استثمارات الأجانب في عام 2018-2019 بحسب بيانات البنك المركزي عن ميزان المدفوعات لنفس العام، وصلت إلى 12 مليار دولار بعد أن كانت بحدود 7.1 مليارات دولار في 2017-2018.
أما الاستثمارات المباشرة -وهي النوع الثاني من الاستثمارات الخارجية- فهي صاحبة أداء سلبي في مصر، حيث إنها تركز فقط على قطاع النفط والغاز الطبيعي، ولم تؤد إلى تطور إيجابي ملموس في الاقتصاد المصري.
وحسب تقرير البنك المركزي لعام 2017-2018، وُجد أن 67% من الاستثمارات المباشرة للأجانب تذهب لقطاع النفط والغاز، ونحو 10% لقطاع الصناعة، وقرابة 11.2% لقطاع الخدمات (عقاري، وتمويل، وسياحي، واتصالات)، أما قطاع الزراعة فنصيبه 0.1%.
ومن هنا فمصر ليست سوقا جاذبا للاستثمارات الأجنبية، بسبب أوضاعها السياسية والأمنية. وفي ظل استمرار الحراك، فسوف يعطي ذلك مؤشرا سلبيا على وضع السوق المصري بالنسبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
فالقاعدة الاقتصادية تقول "رأس المال جبان"، فضلا عن العوامل السلبية الأخرى المتعلقة بغياب المنافسة في السوق المصري، وسيطرة الجيش على الاقتصاد المدني.
البنك المركزي المصري سيلجأ للاقتراض الخارجي لحماية سعر صرف الجنيه (رويترز)
ترتكب السياسة النقدية في مصر أكبر أخطائها، في ظل ممارسة حماية سعر صرف الجنيه، فاستثمارات الأجانب في أذون الخزانة تستخدم بالكامل في حماية سعر الصرف، على الرغم من سعر الفائدة المرتفع الذي تتكبده الموازنة العامة لهذه السياسة الخاطئة.
كما أن جزءا لا يستهان به من الديون الخارجية يستخدم كذلك في حماية سعر صرف الجنيه، ولم تعد آليات العرض والطلب هي التي تحدد سعر صرف الجنيه منذ 2018، ولكن تتم إدارة سعر صرف الجنيه من قبل البنك المركزي المصري الذي يعتبر انخفاض قيمة الدولار أو ثباته أمام الجنيه المصري واحدا من أكبر إنجازاته، في حين أن الأمر يكبّد الموازنة المصرية أعباء كبيرة.
فلم يكن التخفيض الذي شهده سعر الدولار أمام الجنيه في 2018 و2019 نتيجة تحسن موارد مصر الدولارية بشكل يؤدي إلى هذه النتيجة، ذلك لأن صادرات مصر السلعية محدودة، كما أن إيرادات السياحة وقناة السويس لم تشهد تطورات كبيرة تؤدي لتحسين مركز الجنيه أمام العملات الأجنبية، وقد تكون تحويلات المصريين في الخارج هي التي شهدت زيادات ملحوظة، ولكنها لا تعكس أية طفرة على هذا الصعيد.
وحين يأتي حراك الشارع المصري في ظل استمرار التداعيات السلبية لجائحة كورونا على الاقتصاد، فسوف يكون لذلك أثره -بلا شك- السلبي على المؤشرات الاقتصادية الكلية لمصر، ومن بينها سعر الصرف، حيث توقفت الأنشطة السياحية بشكل كبير، كما تراجعت حركة التصدير، وسيكون للأزمة تأثيراتها على تحويلات المصريين بالخارج.
كانت دوافع الحراك في الشارع المصري خلال سبتمبر/أيلول 2020 وما بعده اقتصادية واجتماعية بشكل كبير، وأرسل الحراك عدة رسائل مهمة، على رأسها أن الناس لم تعد تتحمل النتائج السلبية لسياسات السيسي وحكومته، كما عبرت عن عدم قدرة الناس على تحمل المزيد من الأعباء المعيشية التي تجتهد الحكومة في زيادتها باستمرار.
وسيكون لاستمرار الحراك -ولو على نفس الوتيرة التي شوهدت أواخر سبتمبر/أيلول وأوائل أكتوبر/تشرين الأول 2020- دور في التأثير الاقتصادي السلبي على مصر، وعلى الاستثمارات الأجنبية وسعر الصرف بشكل خاص