تغيرت معادلة الطاقة في مصر على مدار السنوات الماضية، فعلى الرغم من أن مصر كانت من الدول المصدرة للنفط منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين فإن الكميات التي كانت تصدرها لم تؤهلها لتكون ضمن أعضاء منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك).
وقد شهد العقد الأخير تراجعا بوضع مصر في إنتاج الطاقة، حيث أصبحت دولة مستوردة للنفط والغاز، وتسبب لها ذلك في مشكلات مالية واقتصادية من شأنها أن تنعكس على آمال التنمية، في بلد يتجاوز تعداد سكانه 95 مليونا.
ومنذ الانقلاب العسكري في مصر منتصف عام 2013 اعتمدت البلاد بشكل كبير على الإمدادات الخليجية من المواد النفطية في شكل مساعدات، أو الدفع عبر تسهيلات ائتمانية طويلة الأمد، ولكن الأيام القليلة الماضية شهدت تغيرا بارزا في معادلة المساعدات والتسهيلات الائتمانية النفطية من قبل السعودية لمصر.
فقد أوقفت شركة "أرامكو" السعودية إمداداتها النفطية لمصر خلال أكتوبر/تشرين الأول الحالي. وحسب تصريحات مسؤولين مصريين بالهيئة العامة للبترول، فإن الشركة السعودية كانت توفر لمصر 40% من احتياجاتها النفطية المستوردة، وهذا ما دعا مصر إلى الإعلان فورا عن طرح مناقصات في السوق الدولية لتغطية العجز الناتج عن وقف الإمدادات النفطية من تلك الشركة.
ويأتي موقف الشركة السعودية في ضوء التوتر الحاصل في العلاقات السياسية بين البلدين، بخصوص تصويت مصر في مجلس الأمن بتأييد مشروع قرار روسي بشأن الأوضاع في سوريا
وبغض النظر عن هذا الموقف العارض -الذي يمكن للشركة السعودية أن تعدل عنه في الشهر القادم- إلا أن الحدث كاشف لعمق الفجوة التي تعاني منها مصر في مجال الطاقة، وكذلك التكلفة التي يتحملها الاقتصاد المصري لمثل هذا القرارات المفاجئة، والتي لا تتناسب مع الأوضاع المالية لمصر.
حسب البيانات المنشورة على موقع وزارة البترول المصرية، فإن تركيبة مصادر الطاقة بمصر تثير القلق فيما يتعلق بتكلفة الحصول عليها، إذ تعتمد الطاقة على المصادر الأحفورية (النفط والغاز الطبيعي) بشكل رئيس، بينما تتضاءل المصادر الأخرى.
ومصدر القلق هنا نابع من كون مصر لا تنتج ما يكفيها من النفط والغاز الطبيعي، وأنها تعتمد على الاستيراد لتغطية هذه الفجوة.
فالبيانات تشير إلى أن الغاز الطبيعي أصبح يأتي في المرتبة الأولى لمصادر الطاقة بمصر بنسبة 55%، ثم النفط بنسبة 41%، والفحم 1%، والمصادر المائية 2%، والمصادر الأخرى المتنوعة والتي تأتي في إطار مصادر الطاقة المتجددة لا تزيد على نسبة 1%.
وثمة ملاحظة على تركيبة مصادر الطاقة في مصر، فمنذ عقد من الزمن كان النفط يحتل المرتبة الأولى، كما أن إنتاج مصر من الطاقة من المصادر المائية كان بحدود 9%، وهذا التراجع في إنتاج الطاقة من المصادر المائية يرجع بالأساس إلى مشكلة المياه التي شهدتها مصر في السنوات الماضية، والتي من المرجح أن تزداد مع اكتمال مشروع سد النهضة في إثيوبيا خلال الفترة القادمة.
كما أن الحديث عن مشروعات مصر في الطاقة المتجددة يتضح أنه لم يصل بعد للمعدلات الاقتصادية التي يمكن أن تعتمد عليها مصر، فنسبة 1% التي تمثلها مصادر الطاقة المتجددة لا تتناسب مع ما يعلن من خطط وإستراتيجيات من قبل الحكومة في هذا الشأن، أو ما يعلن كذلك من منح وقروض من البنك الدولي لتمويل محطات إنتاج الطاقة المتجددة بمصر.
بيانات النشرة المعلوماتية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر عن سبتمبر/أيلول 2016 توضح حجم الفجوة على مدار شهور العام المالي 2015-2016، حيث بلغت كميات الإنتاج من النفط والغاز خلال هذا العام 66.6 مليون طن، بينما وصلت معدلات الاستهلاك إلى 75.7 مليون طن، بما يعني وجود فجوة قدرها 9.1 ملايين طن بنهاية العام.
وكانت الفجوة السلبية في الطاقة بمصر في يوليو/تموز 2015 تبلغ 477 ألف طن من النفط والغاز، لكنها وصلت في يوليو/تموز 2016 إلى 1.19 مليون طن، وذلك على الرغم من تراجع الناتج المحلي الإجمالي في الربعين الثالث والرابع من عام 2015-2016.
وعلى صعيد الغاز الطبيعي، تراجع الإنتاج المصري منه إلى 2.6 مليون طن في يوليو/تموز 2016 بعد أن كان 2.8 مليون طن في يوليو/تموز 2015، وفي الوقت الذي يتراجع فيه الإنتاج بين شهري المقارنة نجد أن الاستهلاك يتخذ الاتجاه العكسي، حيث تزيد المعدلات بشكل واضح، فاستهلاك الغاز الطبيعي كان في يوليو/تموز 2015 نحو 3.08 ملايين طن، وارتفع في يوليو/تموز 2016 إلى 3.4 ملايين طن.
وإذا كانت معدلات إنتاج النفط المصري قد شهدت ارتفاعا طفيفا فإن الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك لم تنسد بهذه الزيادة، ففي يوليو/تموز 2015 بلغ إنتاج مصر من النفط 2.07 مليون طن، ووصل في يوليو/تموز 2016 إلى 2.9 مليون طن، لكن الاستهلاك في شهري المقارنة كان متقاربا عند 3.2 ملايين طن.
ومن المؤشرات السلبية لفجوة الطاقة في مصر أن الفجوة في تزايد من حيث حجمها على الرغم من تراجع العديد من الأنشطة الاقتصادية الرئيسة في مصر، فحسب بيانات النشرة نفسها الصادرة عن جهاز الإحصاء المصري، فإن قطاعي السياحة والصناعات التحويلية تراجعا عن معدلات عام 2014-2015، فماذا لو عادت السياحة لتعمل بنفس طاقتها قبل الانقلاب العسكري أو على معدلات ما كانت عليه قبل ثورة 25 يناير، وكذلك الصناعات التحويلية؟
تشير بيانات ميزان المدفوعات للعام المالي 2015-2016 المنشورة على موقع البنك المركزي المصري إلى أن العجز في الميزان النفطي المصري بين الصادرات والواردات بلغ 3.6 مليارات دولار مقارنة بـ3.5 مليارات دولار في عام 2014-2015.
وفي ضوء وقف السعودية إمداداتها النفطية لمصر في أكتوبر/تشرين الأول الجاري فإن مصر ستتحمل فاتورة عالية، حيث إنها ستشتري من السوق العالمية بأسعار مرتفعة لتغطية العجز خلال هذا الشهر، وإذا ما امتدت الأزمة بين مصر والسعودية واستمر وقف الإمدادات النفطية فسوف يؤثر ذلك على ميزان المدفوعات المصري بشكل سلبي أكثر مما هو عليه.
ومما يحسب لصالح مصر جراء ما تشهده سوق النفط من انخفاض الأسعار أن فاتورة الطاقة تنخفض، وفي حالة عودة الأسعار لمعدلات مرتفعة ستكون أزمة الطاقة أعقد بمصر.
الحديث عن المستقبل من قبل الحكومات في مصر هو نوع من الحدس والتخمين، وليس الاعتماد على الدراسة والتوقعات المسؤولة، فمنذ عقود وكافة خطط التنمية بمصر تتحدث عن أهمية استخدام الطاقة الشمسية في المنازل وفي إنارة الشوارع، وغير ذلك من استخدامات، بحيث تتخفف مصر من فاتورة توليد الطاقة.
ويعد الحديث عن الطاقة وتكلفتها من العناصر التي تخفيها أو لا تتحدث عنها أي خطة للتنمية في مصر، فيتم الحديث عن معدلات تنمية 5%، ويستهدف أن تصل إلى 7% أو 8%، ولكن ما هي متطلبات تلك المعدلات من النمو من الطاقة؟ من أين، وبكم؟
وتظل حاجة مصر من الطاقة في تزايد خلال السنوات القادمة في ظل الزيادة السكانية التي تجاوزت معدل 2.6%، ولا تزال خطط ترشيد الطاقة فيها حبرا على ورق، وتفتقد هذا الترشيد الحكومات المصرية نفسها، فضلا عن غياب تلك الثقافة لدى الأفراد ومؤسسات مجتمع الأعمال أو المجتمع المدني.
ولا يعد التخلص من الدعم الحكومي للطاقة بابا لسد فجوة الطاقة بمصر، فهو يخفف من أعباء ذلك الدعم عن الموازنة العامة بينما يحمله على كاهل المواطنين، ولكن لا يزال الطلب على الطاقة لا يتوقف، وسيشهد تزايدا اضطراريا.
ومن الخطورة بمكان أن تظل إستراتيجية الحكومة تجاه فجوة الطاقة في مصر تعتمد على الاستيراد، فمراجعة ما تم بشأن موارد مصر من غاز طبيعي لصالح إحدى الشركات الأجنبية أمر ضروري، والشيء نفسه مطلوب بشأن إعادة النظر في التنازل عن حقوق مصر في حقول الغاز الطبيعي بالمياه الإقليمية لصالح الكيان الصهيوني.
في الختام يمكننا القول إنه من السطحية أن ينظر إلى فجوة الطاقة بمصر على أنها مجرد تغطية الحصة السعودية في الواردات النفطية، فعودة معدلات النمو الاقتصادي لما تصبو إليه مصر تجعل الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك ضعف ما هي عليه الآن من كميات أي لنحو 18.2 مليون طن، وسوف تتوقف تكلفتها المالية على أسعار السوق الدولية للطاقة، والتي هي بطبيعتها شديدة التقلب كما نرى.