لم تنقطع تصريحات المسؤولين المصريين على مدار الأيام الماضية عن سعيهم إلى الحصول على قروض من الخارج، خاصة حاجتهم إليها قبل نهاية عام 2015، أي في غضون ثلاثة أشهر.
ووفق التصريحات المختلفة لرئيس الوزراء شريف إسماعيل، أو وزير المالية هاني قدري، أو وزيرة التعاون الدولي سحر نصر فإن القروض المطلوبة خلال تلك الفترة هي بحدود 4.5 مليارات دولار من خلال البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية.
يضاف إلى ذلك إعلان وزير المالية تأجيل طرح مصر سندات دولية، وهو ما يظهر أن هناك توجها للتوسع في الاقتراض من الخارج.
وتعتبر المبالغ المشار إليها قليلة مقارنة بحجم الفجوة التمويلية في الموازنة العامة المصرية التي تقدر بنحو عشرين مليار دولار على مدار العامين المقبلين حسب تقديرات مسؤول دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بصندوق النقد الدولي مسعود أحمد، وإن كان آخرون يقدرون هذه الفجوة بنحو ثلاثين مليار دولار سنويا، في ضوء قيمة العجز بالموازنة المصرية، والذي يصل في أقل التقديرات لنحو 240 مليار جنيه، أي بحدود ثلاثين مليار دولار.
ولا يعد الاقتراض من الخارج أمرا سلبيا إلا إذا تم توجيهه للإنفاق الجاري واستمراء هذا المسلك، مما يحمل الأجيال القادمة أعباء الديون ويعرض الاقتصاد القومي لمخاطر الإفلاس والعجز عن الوفاء بسدادها .
وثمة مجموعة من العوامل ستُلجئ الحكومة للاقتراض من الخارج، منها تراجع موارد النقد الأجنبي، وانخفاض احتياطي هذا النقد إلى الحدود الدنيا، وتوجه الحكومة لتمويل مشروعات محطات الكهرباء، وزيادة معدلات الإنفاق على التسليح، وتراجع الدعمين الخليجي والدولي.
وإذا ما نجحت الحكومة المصرية في التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي خلال الشهور القادمة فمعنى ذلك أنها قد تحصل على تسهيلات مالية بحدود ستة إلى ثمانية مليارات دولار، لكن هذا التمويل لن يفي بسد الفجوة التمويلية، مما يفتح الباب للاقتراض من مصادر دولية وإقليمية أخرى.
"
ثمة مجموعة من العوامل ستُلجئ الحكومة المصرية للاقتراض من الخارج، منها تراجع موارد النقد الأجنبي، وانخفاض احتياطي النقد الأجنبي إلى الحدود الدنيا، وتوجه الحكومة لتمويل مشروعات محطات الكهرباء، وزيادة معدلات الإنفاق على التسليح، وتراجع الدعمين الخليجي والدولي
"
وتوضح بيانات البنك المركزي المصري أن الدين الخارجي قفز من 35 مليار دولار في يونيو/حزيران 2011 إلى 48 مليار دولار في نفس الشهر في 2015، وبذلك تكون قيمة الزيادة على مدار السنوات الأربع الماضية 13 مليار دولار تمثل نسبة زيادة قدرها 37%، وتبلغ قيمة الدين الخارجي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي 15%.
كما تظهر بيانات البنك المركزي أن أعباء الدين الخارجي لمصر قفزت من 2.7 مليار دولار في 2011 إلى 5.6 مليارات دولار، أي أن الأعباء تضاعفت خلال فترة المقارنة، وهو ما يظهر طبيعة الزيادة في حجم الدين الأصلي.
لكن لا بد من الإشارة إلى أمرين مهمين عند تقويم قيمة الدين الخارجي لمصر، الأول هو التسوية التي تمت بين الحكومة وشركات النفط الأجنبية العاملة بمصر حول الاستحقاقات المالية لهذه الشركات، حيث كانت الحكومة المصرية مدينة لهذه الشركات بنحو ستة مليارات دولار. وفي إطار التسوية تم سداد نحو أربعة مليارات دولار من خلال تدبير التمويل عن طريق البنوك المحلية لصالح الهيئة العامة للبترول، وبالتالي تم تحويل هذه الديون من شركات النفط الأجنبية إلى البنوك المحلية.
كذلك الأموال التي حصلت عليها مصر في نهاية أبريل/نيسان 2015 تحت مسمى ودائع لدول خليجية بالبنك المركزي المصري لدعم احتياطي النقد الأجنبي، فهذه الأموال مودعة بشروط هي أقرب للقروض منها للودائع، فهناك تحديد لأزمنة استرداد هذه الودائع، ثم تكلفة تمويلها التي تصل إلى 2.5%، في حين أن هذه الدول قدمت في عام 2013 ودائع بمبالغ أكبر لصالح البنك المركزي بفترات سماح وشروط سداد أفضل، فضلا عن سعر فائدة صفر.
وإذا أردنا تقويما حقيقيا للدين الخارجي فإن علينا أن نقدر التزامات مصر في السداد، والتي تتضمن على أقل تقدير الودائع الخليجية الأخيرة والمقدرة بنحو 6.8 مليارات دولار، لتتجاوز قيمة الدين الخارجي 54 مليار دولار، قابلة للزيادة في ضوء توجهات الحكومة للاقتراض من الخارج خلال الفترة المقبلة.
تتجه حكومة شريف إسماعيل إلى الاقتراض تحت وطأة الحاجة للإنفاق الجاري، وليس الإنفاق الاستثماري، مما سيجعل من القروض الخارجية إضافة جديدة لأعباء الدين، فوزير المالية يؤكد على أن قرض البنك الدولي المنتظر بقيمة ثلاثة مليارات دولار ستحصل مصر عليه بواقع مليار كل عام، للمساهمة في خلق حيز لاستمرار الإصلاحات الاقتصادية بالموازنة، فيما يؤكد وزير الكهرباء على أن مفاوضات تُجرى مع وزيرة التعاون الدولي لكي يتم استخدام شريحة من التمويل المتاح من البنك الدولي لسداد جزء من مديونية شركات النفط الأجنبية الواجبة السداد قبل نهاية عام 2015 والبالغة 2.7 مليار دولار.
إذاً الاقتراض لن يخلق فرص عمل جديدة، ولن يساهم في إنتاج سلع وخدمات جديدة، لكنه سيستخدم لسداد أعباء خدمة الدين، سواء لشركات النفط الأجنبية أو ديون الموازنة العامة للدولة.
وقد كانت وما زالت مشكلة مصر في ملف الدين العام أن الحكومات المتعاقبة لا تمتلك برنامجا زمنيا لسداد تلك الديون، والوصول بها إلى الحدود المسموح بها وفق المعايير الدولية، وهي ألا يتجاوز الدين العام -المحلي والخارجي- نسبة 60% من الناتج المحلي الإجمالي.
فما تعتمده كل الحكومات هو آلية استهلاك وإحلال الديون، فتقوم بالاقتراض لسداد ديون قديمة حل أجلها، ثم تضيف جزءا من الديون لتمويل احتياجات آنية، وبذلك يلاحظ أن منحنى الدين العام بمصر في تصاعد مستمر، حتى تجاوز الدين المحلي تريليوني جنيه مصري في نهاية يونيو/حزيران 2015 بينما تجاوز الدين الخارجي 48 مليار دولار في نفس التاريخ. وينتظر أن يقفز الدين العام بمعدلات أكبر مما هي عليه الآن بنهاية ديسمبر/كانون الأول 2015.
كانت وما زالت مشكلة مصر في ملف الدين العام أن الحكومات المتعاقبة لا تمتلك برنامجا زمنيا لسداد تلك الديون، والوصول بها إلى الحدود المسموح بها وفق المعايير الدولية، وهي ألا يتجاوز الدين العام -المحلي والخارجي- نسبة 60% من الناتج المحلي الإجمالي
"
ومن هنا فإن قضية الدين العام مرشحة لمزيد من التفاقم، فظلالها شديدة السلبية اقتصاديا واجتماعيا على واقع المجتمع المصري في ظل عدم توجيه الإيرادات العامة نحو الاستثمار وتمويل قطاعات الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وبنية أساسية.
ولا تمتلك مصر هيئات رقابية يمكنها محاسبة الحكومة على ما تحصل عليه من قروض، سواء عن السبب الداعي للاقتراض، أو الجهات التي يتم الإنفاق عليها من تلك القروض.
فقد دفعت مصر ثمنا غاليا للخروج من أزمة مديونياتها الخارجية في نهاية ثمانينيات القرن العشرين عبر اتفاق صندوق النقد الدولي الذي كبد مصر الكثير من التداعيات السلبية اقتصاديا واجتماعيا، ومع ذلك لم تتعرض الحكومات المصرية منذ ذلك التاريخ وحتى الآن للمساءلة عن تراكم هذه الديون، أو آلية التخارج منها.
ولا ينتظر في ظل البرلمان المرتقب أن يقوم بهذا الدور، ولا حتى باقي الهيئات الرقابية الأخرى على الرغم من أن البرلمان القادم في مصر سيكون مطالبا بالتصديق على اتفاقيات القروض الخارجية التي أبرمتها مصر خلال الفترة الماضية بدون برلمان، لكن لا ينتظر من البرلمان أكثر من تمرير هذه الاتفاقيات.
ثم إن منهجية التعايش مع المشكلات دون الاجتهاد في حلها -والتي مارستها حكومات مصر السابقة- لم تعد تصلح الآن في ظل تفاقم المشكلات الاقتصادية، كما أن مساحات المناورة أصبحت محدودة، ولا بد من إصلاح داخلي في كافة مجالات الاقتصاد المصري، سواء على مستوى الحكومة أو القطاع الخاص,
في نفس الوقت من المستبعد الوصول إلى حل لمشكلة الاقتراض الخارجي بين عشية وضحاها، لكن الحل يستلزم البدء بالإصلاح الداخلي وتحمل ثمن الإصلاح.
أما الثمن جراء التوسع في الدين الخارجي وإهمال الإصلاح فلن يكون سوى الإفلاس، وما اليونان منا ببعيدة.