من المقرر أن تتقدم حكومة مصطفى مدبولي في مصر بمشروع قانون موازنة العام المالي 2021/2022 أول أبريل/نيسان المقبل.
وقد عُقد اجتماع يضم الرئيس عبد الفتاح السيسي ومجلس الوزراء يوم الاثنين 15 مارس/آذار 2021، ووجه السيسي بزيادة الحد الأدنى للأجور إلى 2400 جنيه (نحو 153 دولارا) للعاملين بالجهاز الإداري للدولة، بزيادة قدرها 400 جنيه (25.5 دولارا) عما هو معمول به حاليا. ويكلف هذا التوجيه الموازنة العامة للدولة 38 مليار جنيه (نحو 2.4 مليار دولار).
كما صاحب هذا التوجيه عدة أمور تتعلق بتحسين أوضاع العاملين بالجهاز الإداري للدولة، منها إقرار علاوتين بتكلفة 7.5 مليارات جنيه (نحو 478 مليون دولار). وزيادة الحافز الوظيفي بتكلفة تصل إلى 17 مليار جنيه (نحو مليار دولار). وزيادة المعاشات بنسبة 13%، بتكلفة تصل إلى 31 مليار جنيه (نحو 1.9 مليار دولار). وترقية المستحقين للترقية الوظيفية في 30 يونيو/حزيران 2021، بما يكلف موازنة الدولة مليار جنيه (63 مليون دولار). كما تم إقرار حافز للموظفين المنقولين إلى العاصمة الإدارية الجديدة بتكلفة 1.5 مليار جنيه (نحو 95 مليون دولار).
وحسب تصريحات سابقة، فإن عدد الموظفين الذي سيتم نقلهم للعاصمة الإدارية الجديدة بحدود 50 ألفا، وهو ما يعني أن نصيب الفرد من هذا الحافز يبلغ نحو 2500 جنيه شهريا (نحو 159 دولارا).
وباستثناء رفع قيمة الحد الأدنى للأجور، فكل ما ورد في شأن تحسين أوضاع العاملين بالدولة يتم بشكل دوري كل عام، مع إعداد الموازنة العامة للدولة.
الفلسفة التي تنطلق منها سياسة رفع الحد الأدنى للأجور هي تحقيق قدر من العدالة أو التوازن بين الأجور والأسعار، وهي قضية تحرص عليها الحكومات الديمقراطية، وتتم بشكل دوري كل عام من خلال مفاوضات بين منظمات العمال وأرباب العمل والحكومات، حتى تكون القيمة المتفق عليها محل إجماع، وقابلة للتطبيق، وفي نفس الوقت ملبية لمتطلبات معيشة كريمة للعمال.
ويعد معدل التضخم السائد أحد أهم المؤشرات التي تؤخذ في الاعتبار عند تحديد قيمة الحد الأدنى للأجور، لأنه في حالة عدم زيادة أجور العاملين بنسبة تساوي أو تزيد على معدل التضخم، فمعنى هذا أن أجور العاملين الحقيقية قد قلت من حيث قوتها الشرائية، وهو ما يعني زيادة الأعباء الاجتماعية لأسر هؤلاء العاملين.
وقد مر رفع الحد الأدنى للأجور الشهرية في مصر بنحو 6 محطات خلال الفترة من 2008 – 2021، انتقل خلالها من 112 إلى 2400 جنيه.
غير أنه من الضروري الإشارة إلى أن القيم الخاصة برواتب العاملين بالدولة، خلال الفترة من 2008 وحتى 2012، كانت تشمل الرواتب الأساسية فقط، دون احتساب المكافآت والبدلات، أو ما يعرف بالأجر المتغير. والمعلوم أن أحد علل منظومة الأجور أن المكافآت والبدلات كانت تمثل 80% من إجمالي الأجر.
المصريون منذ عقود طويلة تعودوا على أنه عقب إعلان الحكومة عن زيادة رواتب العاملين، أول يوليو/تموز من كل عام، يواجهون موجة غلاء تجتاح الأسواق. إلا أن الفجوة بين الأجور والأسعار قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011 كانت في تزايد، وساعدت على زيادة معدلات الفقر التي اقتربت من نحو 25% من أفراد المجتمع.
وبعد ثورة يناير، كان أحد أهم مطالب الثورة رفع الحد الأدنى للأجور، وهو ما تم في مرحلته الأولى عام 2012، برفع الحد الأدنى إلى 700 جنيه، ولم يكن ذلك ملبيا لطموحات شريحة العمال والفقراء. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2013، وبعد شهور قليلة من الانقلاب العسكري، قررت حكومة حازم الببلاوي زيادة الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه. وتم توظيف ذلك سياسيا، لاعتبار أن السلطة الجديدة حريصة على تحسين الأوضاع الاقتصادية.
غير أن الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة، بعد هذه الزيادة في أجور العاملين، كانت قاسية، وسلبت أي أثر إيجابي حقيقي في دخول العمال، حيث تم البدء في الرفع التدريجي لأسعار المياه والكهرباء والغاز، والاتجاه لرفع أسعار السلع والخدمات الحكومية، بما فيها رسوم الدراسة في كافة مراحل التعليم، مما جعل العمال يتمنون لو بقيت رواتبهم دون زيادة، نظير بقاء الأسعار عند ما كانت عليه قبل الزيادة.
وكانت الزيادة قبل الأخيرة عام 2019، برفع الحد الأدنى للأجور من 1200 – 2000 جنيه، ضرورية ولابد منها، في ضوء ما تم من تخفيض قيمة الجنيه بنهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2016، حيث بلغت معدلات التضخم ذروتها في يوليو/تموز 2017، ووصلت إلى 34% مما وسع من شريحة الفقراء في المجتمع لتصل إلى نحو 32%.
الزيادة المنتظرة للحد الأدنى للأجور تمثل 20% من قيمة الحد الأدنى قبل الزيادة، ويلاحظ أن الزيادة السنوية المعتادة مقابل ارتفاع التضخم لا تقل عن 10% في رواتب العاملين بالدولة، وهو ما يعني أن نسبة الزيادة المترتبة في توجيه رئيس الجمهورية برفع الحد الأدنى للأجور لا تضيف سوى 10%.
ولكن ثمة تكهنات بأن هذه الزيادة سوف تعقبها إجراءات اقتصادية، قد يكون لها أثر سيئ على الجوانب الاجتماعية للمصريين، وبخاصة أن الحكومة قد حصلت عام 2020 على قروض من صندوق النقد الدولي بحدود 8.5 مليارات دولار، بسبب التداعيات السلبية لجائحة كورونا، ولكن قروض الصندوق عادة ما يصحبها فرض سياسات تقشفية.
ويتخوف المصريون من أن تتم خطوة جديدة في إطار تخفيض قيمة الجنيه، بعد أن صدرت تقارير أجنبية تتنبأ بهذا، وتبين بأن وضع الجنيه حاليا أشد سوءا من وضعه عام 2016. كما أن رصيد استثمارات الأجانب في الدين العام، والذي بلغ 28.5 مليار دولار في يناير/كانون الثاني الماضي، مهدد بالهبوط، بعد رفع سعر الفائدة على السندات الأميركية، والتي أدت إلى خروج الأموال الساخنة من الأسواق الناشئة إلى أميركا.
وإذا ما اتخذت هذه الخطوة بتخفيض جديد لقيمة الجنيه، فسوف تشهد البلاد موجة جديدة من التضخم، تزيد من اتساع رقعة الفقر التي تضم نحو 8.5 ملايين أسرة حاليا، حسب تصريحات نيفين القباج وزيرة الشؤون الاجتماعية.
وقد تلجأ الحكومة لفرض المزيد من الضرائب، والرسوم على السلع والخدمات الحكومية، ويتزايد احتمال اللجوء إلى هذ الخيار مع الموجة التي عكستها تصرفات الحكومة في فرض المزيد من الرسوم على الناس، من خلال تشريعات جديدة، مثل رسوم الشهر العقاري، ورسوم التصالح على العقارات المخالفة، ورسوم دعم صندوق الشهداء من الجيش والشرطة، وغيرها.
قد يذهب البعض إلى أن توجيه السيسي لزيادة الحد الأدنى للأجور هو سعي لتحسين صورة النظام في الداخل، بعد عدة قوانين أثارت غضب الشعب خلال الشهور القليلة الماضية. وعلى رأسها، فرض تسجيل العقارات في الشهر العقاري، مما دعاه لتأجيل العمل بالقانون لعامين قادمين.
ولكن مثل هذا التوجيه، بتكلفته البالغة 38 مليار جنيه على الموازنة، من الصعوبة قبوله في ظل الأوضاع المالية المتراجعة، ولجوء مصر للاقتراض الخارجي بصورة كبيرة، فلم تعد الموازنة تسمح بتحمل التبعات السلبية ماليا لمثل هذه القرارات.
وقد يرى البعض أن ثمة فوائض مالية تحققت بالموازنة العام الماضي نتيجة انخفاض أسعار النفط، مما أدى إلى تخفيض قيمة الأموال المرصودة لدعم الطاقة بالموازنة بنحو 48% أو أن صادرات الغاز المصرية بدأت تؤتي أكلها، وأن الدولة قد تتحقق لديها بعض الفوائض المالية.
ويستبعد الفرض الأول الخاص بتأثير تخفيض قيمة دعم الطاقة بالموازنة، لأن الأمر له جانب آخر وهو أن صادرات مصر من النفط والغاز بلا شك تأثرت هي الأخرى، وانخفضت قيمتها، بما لا يسمح بمثل هذه الفوائض. كما أن الفرض الثاني، الخاص بإمكانية وجود فوائض مالية ناتجة عن وجود زيادة في صادرات الغاز الطبيعي، لا يستقيم مع التبعات المالية التي تتكبدها الحكومة نتيجة توسعها في المديونية العامة (محليا ودوليا).
ختامًا: نجد أن توجيه السيسي بزيادة الحد الأدنى لأجور العاملين بالدولة يقف وراءه دافع محاولة استرضاء هذه الشريحة، للقبول بإجراءات اقتصادية تقشفية، أو فرض ضرائب ورسوم جديدة، من شأنها أن تزيد من الأعباء المعيشية للأفراد.
كما يعكس التوجيه حالة التخبط الاقتصادي في المجتمع، من خلال السؤال عن باقي العاملين بالدولة، وخاصة العمالة غير الرسمية التي تمثل نحو 70% من القوى العاملة، وغالبية هؤلاء العمال لا يتمتعون بأي نوع من الحماية الاجتماعية