ما زال الحديث عن تعويم الجنيه في مصر اصطلاحا إعلاميا، بينما يشير بيان البنك المركزي المصري المنشور على موقعه اليوم الخميس 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 إلى وجود دور للبنك المركزي في سعر الصرف، يظهر من خلال نصه على أنه "لن يتوانى عن توظيف كامل أدواته وصلاحياته للحفاظ على انتظام أسواق النقد وإدارة السيولة، والحفاظ على مستوى الأسعار في الأجل المتوسط".
كما يظهر ذلك أيضا في استمرار القيود على حركة الإيداع والسحب للشركات التي تعمل في استيراد السلع غير الأساسية، بواقع خمسين ألف دولار شهريا للإيداع وثلاثين ألفا شهريا للسحب.
وبالتالي، فنحن أمام مرحلة من مراحل تخفيض الجنيه، في إطار تبني سياسة لتحرير سعر الصرف. ويمكن تسمية ما تم في مصر تعويما مدارا وليس تعويما كاملا.
واتخذ المركزي المصري قراره بتحديد سعر استرشادي للتعاملات بين البنوك أو ما يسمى "الإنتربنك" بـ 13.1 جنيها لشراء الدولار، و13.5 جنيها لبيعه، وترك للبنوك هامش حركة 10% مع عملائها. وصاحَب هذا القرار تحرك لـسعر الفائدة ليرتفع سعر الإيداع إلى 14.75%، والإقراض إلى 15.75%.
وبعد ساعات من قرار المركزي، ارتفعت أسعار الصرف بالبنوك لتستوعب النسبة المسموح بها لحركة البنوك بالكامل. فموقع البنك التجاري الدولي (خاص) يبين أنه يشتري الدولار بسعر 14 جنيها، ويبيع بسعر 14.3 جنيها، بينما البنك الأهلي (مملوك للدولة بالكامل) بلغت فيه أسعار صرف الدولار 13.7 جنيها للشراء و14.2 جنيها للبيع.
ومن هنا نجد أن متوسط انخفاض الجنيه أمام الدولار بناء على السياسة الجديدة لسعر الصرف، يصل إلى 61.3%. وينتظر خلال الأيام القادمة أن تزيد حدة انخفاض الجنيه نظرا لارتفاع الطلب عليه لتلبية احتياجات الاستيراد سواء لقطاع الإنتاج أو الخدمات.
وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، عاش الاقتصاد المصري حالة من الضبابية حول سعر الصرف، ومورست المضاربة على الدولار بشكل كبير، كما اتجه أصحاب المدخرات في مصر إلى ظاهرة الدولرة لحماية مدخراتهم من الانهيار.
وكان أداء البنك المركزي مضطربا، سواء على مستوى الإجراءات أو السياسات، فاستمر في تبني سياسة حماية سعر الصرف، حتى تم تدمير كامل الاحتياطي النقدي، وتحويل رصيد الأصول الأجنبية لديه بالسالب، أي أن ما لديه من أصول أجنبية من الديون يفوق ما له من أصول.
ثمة مجموعة من المستهدفات لإقدام البنك المركزي على اتخاذ قرار بتحرير سعر الصرف، على رأسها استيفاء شروط الحصول على حزمة التسهيلات الائتمانية من صندوق النقد الدولي وباقي المؤسسات الدولية الأخرى، وكذلك محاولة إغراء حائزي الدولار لبيعه لصالح الجهاز المصرفي وشركات الصرافة، حتى يتسنى للبنك المركزي إعادة بناء الاحتياطي النقدي من موارد ذاتية، وتحقيق حالة من الاستقرار في سوق الصرف، ومواجهة موجات التضخم العالية التي عاشها المجتمع المصري خلال الفترة الماضية وكان ينتظر لها أن تستمر لأعلى مما كانت عليه.
هذه هي الأهداف المعلنة والمقروءة من بيان البنك المركزي بشأن تحرير سعر الصرف. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فهناك قيود تحول دون تحقيق هذه الأهداف، وهو ما سنتناوله في السطور الآتية عن الآثار السلبية لما أعلن عنه من تحرير لسعر الصرف.
تبقى قضية مصر الرئيسة أن اقتصادها قائم على الاستهلاك، ويعاني من فجوتين كبيرتين، الأولى فجوة إنتاجية تظهر من خلال استحواذ القطاع الاستهلاكي على 95% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي تتم تغطية هذا الجزء من خلال الاستيراد، وتزداد المشكلة تعقيدا في ظل استمرار ارتفاع معدلات الزيادة السكانية التي تتجاوز 2.6%.
والفجوة الثانية هي الفجوة الدولارية والتي تبينها بوضوح بيانات ميزان المدفوعات لعام 2015-2016 حيث تراجعت الصادرات السلعية 3.5 مليارات دولار، وتراجعت إيرادات السياحة بـ 3.6 مليارات، وتراجعت إيرادات قناة السويس 0.240 مليار، وتراجعت تحويلات العاملين بالخارج 2.4 مليار. ولم تجد مصر بُدا من الاقتراض لسد الفجوة الدولارية خلال عام 2015-2016 حيث اقترضت ستة مليارات دولار.
وتظهر الآثار السلبية على الاقتصاد المصري جراء الخطوة الجديدة بتخفيض قيمة الجنيه فيما يلي:
لمواجهة موجات التضخم في ظل انخفاض الجنيه وحماية المدخرين، اتخذ البنك المركزي قراره بزيادة سعر الفائدة بمقدار ثلاث نقاط مئوية، وهو ما يعني أن سعر الفائدة على الإقراض للمستثمرين سيرتفع إلى 15.7% في المتوسط، بينما الأسعار الواقعية للإقراض ستكون عند سقف يلامس 20%، وهو ما سيرفع تكلفة التمويل على المستثمرين، ويزيد من تكلفة المنتج المحلي، ويضعف موقفه التنافسي في السوقين المحلية والخارجية.
على الرغم من أن البعض قد يرى أن السوق قد استوعبت الموجات التضخمية خلال الأيام الماضية بعد وصول سعر الدولار إلى 18 جنيها في السوق السوداء، وأن انخفاض السعر إلى 14.3 جنيها سوف يؤدي إلى انخفاض معدلات التضخم، فإنه يتعين أن نوضح أن البنك المركزي كان يمول الاحتياجات الحكومية سواء لأغراض الإنتاج أو الاستهلاك عند أسعار 8.86 جنيهات للدولار، وبالتالي فالمؤسسات الحكومية والعامة ستزيد من تكلفة منتجاتها، وهو ما سيساعد على ارتفاع الأسعار.
كما أن السوق المصرية يفتقد لكل أشكال الرقابة سواء من الحكومة أو المجتمع المدني، وبناء على توقعات مؤسسة كابيتال إيكونوميكس للأبحاث ستزيد معدلات التضخم في مصر بمعدل 6% في الشهور الثلاث القادمة.
مشكلة أصحاب الدخول المحدودة والثابتة -وهم شريحة كبيرة تزيد على 75% من القوى العاملة في مصر- أن دخولهم لا تتواكب مع الزيادة في الأسعار. ومن هنا ستكون وطأة موجة التضخم القادمة قاسية على الأسر المصرية. فإذا كانت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى أن معدل التضخم على أساس سنوي بلغ 15% في سبتمبر/أيلول 2016، فإن معدل التضخم خلال الشهور الثلاثة القادمة سيتجاوز 20%، وفق توقعات مؤسسة كابيتال إيكونوميكس.
الأقساط والفوائد الخاصة بالدين الخارجي تدفع بالعملات الصعبة، ولكنها تترجم في حسابات الموازنة بالجنيه المصري، فالافتراضات التي بنيت عليها موازنة 2016-2017 تبين أن سعر الدولار قدر بالسعر الرسمي بحدود 8.6 جنيهات، ومع سياسة تحرير سعر الصرف فإن عبء الدين الخارجي وغيره من بنود الموازنة التي تقدر بالدولار سيزيد من قيمة ونسبة عجز الموازنة الذي تجاوز 12.2% عام 2015-2016 وفق تقديرات وزارة المالية المصرية عن الحسابات الختامية. ومن هنا يتوقع أن يتجاوز العجز الفعلي بـالموازنة العامة لعام 2016-2017 حاجز الـ 13%.
مع الساعات الأولى لتعاملات البورصة المصرية اليوم الخميس 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، ارتفع مؤشرها العام بنحو 9% ثم انخفض نهاية اليوم لنحو 3%. ويفسر أداء البورصة بشكل أدق النظر إلى قيمة التداول وليس الزيادة في القيمة السوقية. وتظهر بيانات البورصة أن الزيادة المتحققة في قيمة التداول بلغت نحو مئة مليون جنيه فقط لا غير (سبعة ملايين دولار) فضلا عن أن إقدام البنك المركزي على رفع سعر الفائدة إلى 16% على بعض الأدوات الادخارية سيسحب السيولة من البورصة خلال الأيام القادمة، نظرا لما تتمتع به العوائد البنكية من استقرار وأمان عالٍ. ومن هنا يتوقع أن ينهار المؤشر العام للبورصة مع بداية التعامل في الأسبوع القادم.
يظل التحدي أمام الجهاز المصرفي المصري تجاه سياسة تخفيض سعر الجنيه بنحو 60%، أن يكون قادرا على الوفاء بالطلب على الدولار، وهو ما سيعجز عنه الجهاز المصرفي لارتفاع حجم الطلب بسبب سياسة الحد من الاستيراد التي اتبعتها حكومة مصر خلال الفترة الماضية، وهو ما أسفرت عنه الساعات الأولى لتعاملات الأفراد والشركات مع البنوك المصرية، حيث تقوم البنوك بالشراء وتمتنع عن البيع.
ويراهن المركزي المصري على ما لدى الأفراد من عملات أجنبية وبخاصة الدولار، وكذلك يسعى لإنهاء نشاط السوق الموازية، ولكن يقف في وجهه لتحقيق هذين الهدفين حالة الترقب التي سيعيشها الأفراد في الأجل القصير لطبيعة مرونة الجهاز المصرفي للوفاء بالطلب على الدولار من قبل المستثمرين والمستوردين.
فإن كانت النتيجة إيجابية، ففي الأجل المتوسط سيتخلص الأفراد مما لديهم من الدولار عند الأسعار التي سيفرضها الجهاز المصرفي، أما إذا كانت النتيجة سلبية -وهذا هو المتوقع بنسبة كبيرة- فستكون السوق السوداء الملاذ لكل من حائزي الدولار وطالبيه من مستثمرين ومستوردين، ويكون إجراء البنك المركزي بتحرير سعر الصرف مجرد اعتراف جزئي بالواقع.