رسالتان مختلفتان من الحكومة المصرية
الشفافية مطلوبة بالاتفاقيات المعلنة
استحضار المؤسسية ودور الأجهزة الرقابية
غياب البعد التنموي بالمشروعات
تراجع وتغير بالمساعدات الخليجية
وسط أجواء مشحونة بالسجال السياسي، انتهت أعمال مؤتمر "مصر المستقبل" مساء الأحد، ليسفر عن مجموعة من الاتفاقيات الخاصة باستثمارات ومعونات وبروتوكولات تخص مجموعة من المشروعات المتعددة.
وقد كانت الدول الخليجية (السعودية والإمارات والكويت وسلطنة عُمان) صاحبة المبادرة الأولى في أعمال المؤتمر بتقديم دعم بنحو 12.5 مليار دولار، منها 3.25 مليارات على شكل ودائع للبنك المركزي المصري، وبقية المبلغ عبارة عن استثمارات لم يعلن عن مجالاتها أو الجدول الزمني لتنفيذها.
وفي اليومين الثاني والثالث للمؤتمر، وقعت الكثير من الاتفاقيات ليلخصها وزير الاستثمار المصري بأنها كانت بحدود 130 مليار دولار، بخلاف عقد إنشاء العاصمة الجديدة الذي قدر بـ45 مليارا، ويتعلق مبلغ 130 مليارا بمجموعة من مذكرات التفاهم التي تخص مشروعات طرحت في المؤتمر قدرت بنحو 92 مليارا.
ولم تتجاوز الاستثمارات الفعلية التي أشار إليها الوزير 15 مليار دولار، بالإضافة إلى 18 مليارا أخرى تخص تمويل وتركيب وتشغيل محطات للطاقة، ونحو 5.2 مليارات أتت في إطار اتفاقيات لمنح وقروض
وكانت هناك تقديرات للحكومة المصرية حول قيمة الاستثمارات المستهدفة من المؤتمر، إذ تراوحت بين عشرة وعشرين مليار دولار.
"
تصريحات وزير التجارة والصناعة المصري أخذت اتجاها آخر، إذ صرح بأنه ينبغي عدم المبالغة في مليارات المؤتمر حتى لا يطالب الأفراد بنصيبهم منها، وهو ما حمل رسالة سلبية تقلل من وعي المصريين
"
وثمة رسالة مهمة حرص على بثها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزراء حكومته، مفادها أنه بعد انقضاء المؤتمر ستشرع كافة الأجهزة التنفيذية في العمل بما تم الاتفاق عليه من مشروعات ومعونات واستثمارات، غير أن تصريحات وزير التجارة والصناعة منير فخري عبد النور أخذت اتجاها آخر، إذ صرح بأنه ينبغي عدم المبالغة في مليارات المؤتمر حتى لا يطالب الأفراد بنصيبهم منها.
ويُعد هذا التصريح رسالة شديدة السلبية تحمل إشارات تقلل من وعي المواطنين، كما أنها تشير إلى أن المسؤولين المصريين ربما يعملون بمعزل عن بقية أفراد المجتمع. وثمة ملاحظة أخرى، وهي أنه لم يكشف بشفافية ودقة عن المبالغ التي تخص الاتفاقيات والعقود الموقعة بالمؤتمر بين الحكومة ومستثمرين عرب وأجانب.
وإذا اعتبرنا أن ما أعلن عنه، من نتائج تخص حصيلة استثمارات المؤتمر، صحيحاً بنسبة 100%، سواء العاجلة منها أو الآجلة، فإن تلك النتائج تفرض مجموعة من التحديات.
إن ما تم الإعلان عنه من اتفاقيات لمشروعات خاصة بالبنية الأساسية بمجالات الطاقة وغيرها يستلزم دون أي شك الإعلان عنها عبر إحدى آليات العمل الحكومي من تسمية المشروعات، وحجم التمويل، ومدد التنفيذ، وكذلك توضيح ما ستتحمله الموازنة العامة من أعباء سداد تكلفة هذه الأعمال، وكذلك أسعار الفائدة التي ستدفع نظير التمويل الممنوح لإنجاز هذه المشروعات.
كما يتطلب الأمر أن تتاح الشروط الخاصة بالمكون المحلي أو التشغيل، واستفادة العمالة المحلية من فرص العمل التي ستحدثها هذه الاستثمارات. فإذا ما جنبنا مبلغ 92 مليار دولار باعتباره أتى في إطار مذكرات تفاهم وليس باتفاقيات أو عقود، فإن هناك 33 مليارا تخص استثمارات سيتم تنفيذها، ومطلوب معرفة الأعباء التي ستتحملها الحكومة من أجل تنفيذها، وكذلك العوائد المنتظرة من هذه المشروعات.
وبخصوص الأموال التي تدخل ضمن المنح والقروض، وقيمتها 5.2 مليارات دولار، فإن تساؤلات تثار من قبيل: ما هي الجهات المانحة، وما هي الجهات المقرضة؟ وما هي الشروط الخاصة بكل من القروض والمنح؟ إذ أن البنك الدولي أعلن عن تقديم أربعة مليارات دولار مساعدات إنمائية لمصر، بواقع مليار كل عام، فماذا عن الجهات الأخرى؟
لقد اتضح من الكلمة الختامية للمؤتمر التي ألقاها السيسي بأن هناك غيابا تاما لباقي مؤسسات الدولة، أو أنها عديمة الخبرة، فعلى سبيل المثال إحدى الشركات الأجنبية عرضت مدة 24 شهرا إلى ثلاثين للتنفيذ، قبل أن يتم تقليص المدة عقب مفاوضات مع الرئيس المصري لتنخفض إلى ثمانية شهور!!
"
الكلمة الختامية للمؤتمر التي ألقاها السيسي توضح بأن هناك غيابا تاما لباقي مؤسسات الدولة، أو أنها عديمة الخبرة، فمثلا إحدى الشركات الأجنبية عرضت مدة 24 شهرا إلى ثلاثين للتنفيذ، قبل أن يتم تقليص المدة عقب مفاوضات مع الرئيس المصري لتنخفض إلى ثمانية!!
"
هذا التقليص في مدة الإنجاز ينطوي على احتمالين، إما مبالغة الشركة الأجنبية، أو عدم خبرة المؤسسات والهيئات المصرية التي مثلت الطرف الثاني في العقد. وتكرر هذا الأمر في أكثر من موقف يخص قيمة وتكلفة المشروعات، مما أعطى انطباعا بأن مصر يمكن أن يديرها شخص ولا داعي لوجود هذه المؤسسات.
وإذا كانت مصر قد قبلت التعاقد والتوقيع على اتفاقيات بهذا الحجم من الأموال، فأين دور الأجهزة الرقابية؟ إن غياب البرلمان قد يفضي إلى تنفيذ هذه المشروعات في ظل شروط قد تضر بوضع مصر الاقتصادي.
لوحظ خلال عرض اتفاقيات المشروعات أنها جميعها تأتي في إطار الإسكان أو البنية الأساسية سيما في مجال الطاقة، وغاب الحديث عن مشروعات في قطاعات مهمة مثل الصناعة والزراعة، أو المشروعات التي تحدث وظائف كثيرة بما يسمح بتخفيض أعداد العاطلين أو استيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل.
إن التصدي لمشروعات البنية الأساسية من الأمور المهمة، ولكن هناك غيابا للاستثمارات بمجالات قد تقلل من اعتماد مصر على الخارج في إنتاج السلع الإستراتيجية، أو يمكنها المساهمة في تقليص الفجوة بالميزان التجاري، بل إن تنفيذ المشروعات المتعاقد بشأنها في مجالات البنية الأساسية والإسكان ربما يؤدي إلى زيادة حجم الواردات، وتفاقم عجز الميزان التجاري.
ثمة ملاحظة مهمة تخص الدعم الخليجي لمصر، والذي أعلن عنه باليوم الأول للمؤتمر، وهي أن الدعم مقسم إلى شقين، الأول لدعم احتياطي البلاد من النقد الأجنبي بنحو 3.25 مليارات دولار، وقد وعدت الدول الخليجية بضخ أموال الودائع عقب انتهاء المؤتمر، ولكنه سيكون دعما للاحتياطي على المدى القصير، في حين أن التزامات القاهرة المالية بالفترة المقبلة تستلزم زيادة هذا الاحتياطي بما لا يقل عن عشرين مليارا.
كما أن الدول الخليجية الداعمة لم تسمِ مشروعات بعينها، ولم تحدد فترات للوفاء بما وعدت به من استثمارات، كما أن السعودية مثلًا حددت جزءا من مساعدتها في إطار دعم برنامج صادراتها إلى مصر، وهو ما يعني أن دعم الرياض يستهدف زيادة صادراته، وهو ما يعني تفاقم مشكلة الواردات المصرية، وتكريس واقع أن مصر سوق مستهلكة وليست منتجة.
إن عدم تحديد فترات محددة لتدفق استثمارات الخليج قد يفيد بإمكانية عدم تحقق هذه الاستثمارات في العام الجاري، وهو ما يعني بالنسبة لمصر فجوة في الموارد المالية والاستثمارية، وسينعكس ذلك سلباً على أداء ميزان المدفوعات.
كما أن قيمة الدعم الخليجي تقل بالنصف مقارنة بما قدمته الدول الثلاث لمصر منذ الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013، ويتوقع أن تكون مساعدات الخليج للعام القادم أقل بكثير بحيث لا تتجاوز خمسة مليارات دولار أو أقل.
وسيفرض هذا التغير في المعونات الخليجية على مصر تحديات كبيرة في إدارة شؤونها المالية، سواء ما يتعلق بإدارة عجز الموازنة أو الاحتياطي النقدي، أو الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وستكون النتيجة ظهور المؤشرات الاقتصادية الكلية في وضع سلبي، وهذا ما يتوقعه صندوق النقد الدولي على صعيد زيادة الواردات وتراجع الصادرات عام 2015.
وأخيراً، فإن ما صاحب الإعلان عن نتائج المؤتمر رفع سقف توقعات المصريين، والذين يأملون قطف ثمار هذه الاتفاقيات والمليارات التي قدرت بنحو 130 مليار دولار.
غير أنه إذا لم تدخل المشروعات حيز التنفيذ، ويجد المواطن لها أثرا في حياته، فإنه ستكون لهذا الأمر تداعيات سلبية، تضاف إلى بعض الإخفاقات التي منى بها المواطن في إنجازات وعدت بها حكومة الانقلاب ولم تتحقق، مثل إيجاد علاج لمرض التهاب الكبد الفيروسي (سي) أو مشروع المليون وحدة سكنية