تصريحات مسؤولي المؤسسات الدولية عادة لا تعرف المجاملة، فكل كلمة لها دلالاتها التي تغير التقويم الاقتصادي للدولة المتحدث عنها، ولكن أداء مسؤولي صندوق النقد والبنك الدوليين على مدار الأيام الماضية كان محل استغراب بشأن الوضع في مصر.
فمصر التي تعاني مشكلات اقتصادية حادة حظيت بتصريح لمسؤول دائرة الشرق الأوسط في صندوق النقد الدولي مسعود أحمد، يؤكد فيه أن مصر ستحقق معدل نمو 4.2% في العام المالي الحالي 2015-2016، وأنه سيتزايد إلى 4.3% في عام 2016-2017، ويضيف مسعود أن مشكلات الاقتصاد العالمي قد تصب في صالح الاقتصاد المصري.
أما التصريح الثاني فقد أتى على لسان المسؤول الإقليمي للبنك الدولي بالقاهرة أسعد علام، أثناء حديثه مع إحدى الفضائيات المصرية، حيث صرح علام بأن عدم مشاركة البنك الدولي في مشروع توسعة قناة السويس دليل يثبت قدرة مصر على الإنجاز.
والتصريحان يحملان مجاملة للحكومة المصرية أكثر من تعبيرهما عن واقع الاقتصاد المصري. وفي ما يلي نستعرض مدى مطابقة هذين التصريحين للواقع
ثمة مجموعة من الشواهد التي تدلل على أنه من المستحيل أن يحقق الناتج المحلي الإجمالي لمصر معدل نمو 4.2%، ومن هذه الشواهد ما أصاب قطاع السياحة المصري بعد حادثة سقوط الطائرة الروسية في أكتوبر/تشرين الأول 2015، التي قضت على موسم السياحة الشتوي، الذي يُعد عماد السياحة المصرية.
"
خسائر نشاط السياحة لا تقتصر على القطاع فقط، بل تمتد لتشمل نحو 92 صناعة في الاقتصاد المصري؛ ولذلك فإن حصر القيمة المطلقة لخسائر الاقتصاد المصري من أزمة السياحة في حدود قطاع السياحة غير دقيق
"
وزير السياحة المصري هشام زعزوع صرح بأن خسائر قطاع السياحة تقدر بنحو 2.2 مليار جنيه مصري (نحو 280 مليون دولار) شهريا. وعلى الرغم من أن وزير السياحة تحدث عن الخسائر المباشرة وغير المباشرة للقطاع، فإن خسائر نشاط السياحة لا تقتصر على القطاع فقط، بل تمتد لتشمل نحو 92 صناعة في الاقتصاد المصري، ولذلك فإن حصر القيمة المطلقة لخسائر الاقتصاد المصري من أزمة السياحة في حدود قطاع السياحة غير دقيق.
فالسياحة تسهم بنحو 11.5% من الناتج المحلي المصري، وبالتالي يتوقع أن يتأثر الناتج المحلي الإجمالي للعام المالي 2015-2016 بشكل ملموس نتيجة أزمة السياحة. ومن الشواهد الرسمية على تراجع السياحة المصرية كذلك تصريح رئيسة غرفة المنشآت الفندقية بمحافظة البحر الأحمر بأن نسبة حجوزات الفنادق بمدينة الغردقة في أعياد الميلاد ورأس السنة صفر.
أما الصادرات السلعية غير النفطية فقد تراجعت حسب الأرقام الرسمية لوزارة التجارة والصناعة المصرية خلال فترة يناير/كانون الثاني-نوفمبر/تشرين الثاني 2015، لتصل إلى 16.7 مليار دولار مقابل 20.2 مليار دولار في الفترة المناظرة من العام السابق، أي أن قيمة التراجع بلغت 3.5 مليارات دولار، وبنسبة تقدر بـ17.3%.
ولم يكن تراجع الصادرات السلعية غير النفطية خاضعا للصدفة، بل مرجعه إلى السياسات الاقتصادية المصرية التي حجمت من حصول القطاع الخاص المصري على الدولار لتلبية احتياجاته من مستلزمات الإنتاج، وكذلك عجز الحكومة عن توفير الطاقة للمصانع لكي تفي بالتزاماتها التصديرية.
وعلى المنوال نفسه، فإن قناة السويس بدأت تتراجع إيراداتها مع بداية العام المالي 2015-2016، واستمر التراجع من أغسطس/آب إلى نوفمبر/تشرين الثاني الماضيين، ليصل لنحو 132 مليون دولار من حصيلة عوائد القناة لنفس الشهور الأربعة من العام الماضي.
"
السياسات الاقتصادية المصرية حجمت من حصول القطاع الخاص المصري على الدولار لتلبية احتياجاته من مستلزمات الإنتاج، فضلا عن عجز الحكومة عن توفير الطاقة للمصانع لكي تفي بالتزاماتها التصديرية
"
ولا يتوقع لعوائد القناة أن تشهد مزيدا من الارتفاع خلال الشهور المقبلة، بسبب التعافي الهش للاقتصاد العالمي، وتراجع أسعار النفط، مما أثر على معدلات نمو التجارة العالمية التي بلغت 2.4%، وهي معدلات لا تؤدي إلى زيادة حركة السفن بقناة السويس خلال المرحلة المقبلة. ويمكن القول إن أفضل التوقعات لقناة السويس أن تستمر في تحقيق عوائدها الحالية، دون أن تشهد المزيد من الانخفاض.
ومن المعلوم اقتصاديا أنه في حالة تحقيق زيادة في معدلات النمو الاقتصادي، فإن ذلك يكون له مردود إيجابي على معدلات البطالة والتضخم، حيث تؤدي زيادة معدلات النمو الاقتصادي إلى خلق فرص عمل جديدة، والدفع بمزيد من السلع والخدمات في الأسواق.
ولكن تصريحات رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر مؤخرا تؤكد أن "عام 2015 شهد ثبات معدلات البطالة والتضخم عند مستوياتها المرتفعة، ليتراوح معدل البطالة بين 12.7 و12.9%، كما يتراوح معدل التضخم السنوي بين 10 و11%".
فبقاء البطالة والتضخم بالاقتصاد المصري عند هذه المعدلات شديدة السلبية، وغيرهما من الشواهد السلبية السابق ذكرها، يتنافى وتوقعات المسؤول بصندوق النقد الدولي مسعود أحمد بقدرة الاقتصاد المصري على تحقيق معدل نمو يصل إلى 4.2%.
أما تصريح المسؤول الإقليمي بالبنك الدولي في القاهرة أسعد علام الذي رأى أن امتناع البنك الدولي عن تمويل مشروع توسعة قناة السويس دليل يثبت قدرة مصر على الإنجاز، فهو يتنافى مع ما قام به البنك مؤخرا من توقيع اتفاق بقرض قيمته ثلاثة مليارات دولار مع الحكومة المصرية، بواقع مليار دولار كل عام.
فلو كانت مصر قادرة على الإنجاز لما أعطت أكبر نسبة فائدة على سنداتها الدولية في يونيو/حزيران 2015 بنحو 6.25% للحصول على 1.5 مليار دولار. وارتفاع سعر الفائدة هنا مرجعه ضعف الملاءة الائتمانية للمقترض، لذلك يقدم المقترض سعر فائدة أعلى كنوع من الإغراء للمقرضين، وإلا لو تساوى مع غيره من المقترضين لاتجه مشترو السندات لمن هو أفضل ائتمانيا.
"
لو كانت مصر قادرة على الإنجاز لما أعطت أكبر نسبة فائدة على سنداتها الدولية في يونيو/حزيران 2015 بنحو 6.25% للحصول على 1.5 مليار دولار، وارتفاع سعر الفائدة هنا مرجعه ضعف الملاءة الائتمانية
"
وحتى تصريحات علام نفسه تتضمن ما يعيق مصر عن الإنجاز، ففي الوقت الذي ذكر فيه أن القطاع الخاص المصري يمتلك إمكانيات كبيرة للنمو يمكن استثمارها، يعاني المنتجون في مصر من معوقات أهمها ارتفاع تكلفة العمالة، والبيروقراطية، ونقص التدريب، فهل بعد هذه العوائق والتحديات يكون لدى مصر قدرة على الإنجاز؟
وإذا نظرنا إلى وضع مصر على العديد من المؤشرات الدولية، سنجد مصر في ترتيب متأخر:
ففي تقرير التنمية البشرية لعام 2015 احتلت مصر المرتبة 108 من بين 188 دولة، وفي مؤشر التنافسية للعام 2015-2016 بقيت مصر في مرتبة متدنية سواء على مستوى المؤشر العام أو المؤشرات الفرعية، فحلت في الترتيب العام في المرتبة 116 من بين 140 دولة، وفي المؤشرات الفرعية احتلت مصر الترتيب 91 في مؤشر البنية التحتية، والترتيب 137 في بنية الاقتصاد الكلي، والترتيب 137 في كفاءة سوق العمل، وفي مؤشر القدرة على الابتكار احتلت الترتيب 120.
وثمة تقارير دولية أخرى ترصد تراجع ترتيب مصر، خاصة بعد الانقلاب العسكري، فتقرير ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2015-2016، يظهر تراجع ترتيب مصر إلى 131 من بين 189 دولة شملها التقرير، في حين أن ترتيب مصر في العام السابق كان 126، أي أن مصر تراجعت خمس درجات.
وعلى مستوى المؤشرات الفرعية، سجلت مصر ترتيبا متدنيا، ففي مؤشر الحصول على التراخيص حلت مصر في الترتيب 113، وفي الحصول على الكهرباء 144، وفي دفع الضرائب 151.
ولا شك أن هذه المؤشرات المتدنية لمصر تعكس أنها غير قادرة على الإنجاز، فما حدث في اكتتاب سندات توسعة قناة السويس أتى بلا دراسة جدوى، وكان سبب الإقبال عليها هو ارتفاع سعر الفائدة آنذاك ووصوله إلى 12.5%، بزيادة قدرها نحو 3% عن متوسط سعر الفائدة على الإيداعات في البنوك.
وبعد بيان تعارض تصريحات مسؤولي صندوق النقد والبنك الدوليين مع الواقع الاقتصادي لمصر، نجد أن تلك التصريحات ربما أتت في إطار المجاملة، أو الترتيبات السياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي