تحولت مصر إلى مستورد صاف للنفط في عام 2008، ولذلك اتخذت حكومة نظيف في عام 2007 قراراً يقضي بالتخفيض التدريجي لدعم الطاقة بالنسبة للصناعات التي تستهلكها بكثافة، على أن يكون ذلك على مدار ثلاث سنوات، ولكن الأزمة المالية العالمية، وما تبعها من آثار سلبية على الاقتصاد المصري، أجل هذه الخطوة.
وبعد أن كان النفط على مدار نحو عقدين ونصف، أحد مصادر النقد الأجنبي في مصر، أصبح أحد مصادر استنزاف هذا النقد، الذي تعاني البلاد من ندرة شديدة، تُحدث اضطرابات مستمرة في احتياطي النقد، وكذلك سعر الصرف. وللمرة الأولى، أعلن بمصر، بعد ثورة 25 يناير، عن مستحقات لشركات النفط الأجنبية تصل إلى 6 مليارات دولار، تعجز الدولة عن سدادها، وكلما قامت بسداد نحو 25 % من هذا الدين، تراكم ووصل لنفس القيمة بعد شهور معدودة.
بعد انقلاب 3 يوليو 2014 في مصر، تمثلت أبرز صور الدعم من دول خليجية لمصر في الشحنات النفطية، سواء المجانية منها، أو تلك المقدمة في صورة تسهيلات. وحسب التقديرات المنشورة، فإن هذه الشحنات النفطية الداعمة لمصر تصل قيمتها إلى نحو 750 مليون دولار شهرياً، وبقي نحو نصف مليار دولار أخرى احتياجات نفطية لمصر لا بد من تدبيرها بعد الحصول على شحنات الدعم الخليجية، وهو ما يمثل مصدر ضغط مستمر على ميزان المدفوعات المصري، وكذلك تهديداً دائماً لاحتياطي البلاد من النقد الأجنبي.
ولكن في ظل انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية، يلوح في الأفق مؤشر لاستفادة مصر من هذا الانخفاض، ولكن ما هي حقيقة هذا التوقع وأثره على الاقتصاد المصري؟ هذا السؤال هو محور التحليل التالي.
بيانات التقرير السنوي للبنك المركزي المصري عن العام المالي 2012/2013، تشير إلى أن هناك عجزاً في الميزان البترولي عن مدار العامين 2011/2012 و2012/2013 بقيمة 550 مليون دولار و490 مليون دولار، على التوالي. ويتوقع أن يزيد هذا العجز.
"إن سيناريو استفادة مصر من الانخفاض الحادث في أسعار النفط بالسوق العالمي، يفترض استمرار هذا الانخفاض ولفترة قد تصل للأجل المتوسط"
أما تقرير وزارة التخطيط المصرية عن متابعة خطة العام المالي 2013/2014، فيشير إلى تراجع إنتاج الغاز في عام 2013/2014 بنسبة 11.9% مقارنة بما كان عليه الوضع في عام 2012/2013.
كما أن الفجوة بين الفائض في الإنتاج والاستهلاك في تراجع مستمر على مدار الفترة من 2010/2011 - 2013/2014، فبعد أن كان الفائض في عام 2011/2010 نحو 10 ملايين طن، انخفض هذا الفائض إلى 1.6 مليون طن في 2013/2014. وبذلك، بلغت نسبة الانخفاض في الفائض نحو 85%. ولذلك، تراجعت صادرات مصر من الغاز في عام 2012/2013 بنسبة 17.9%، وهذه النسبة مرشحة لتراجع أكبر في عام 2013/2014.
أما عن النفط الخام، فيشير تقرير وزارة التخطيط، إلى أن إنتاج النفط قد زاد بنسبة 10% في عام 2013/2014 عن العام السابق له، كما أن الصادرات من النفط الخام زادت بنسبة 25.3% في عام 2012/2013، إلا أن اللافت للنظر أن الواردات من النفط الخام بمصر في نفس العام زادت بنسبة 50.9 %.
ونخلص من هذه البيانات إلى أن مصر تعيش أزمة في موارد الطاقة، وهو ما دل عليه أداء هذا القطاع منذ عام 2012/2013 وحتى الآن، وأن مصر سوف تشهد المزيد من الاحتياجات إلى الطاقة، حيث تشير التقديرات إلى أن احتياطات البلاد من الطاقة تزيد سنوياً بمعدل 3%، وهو ما دفع السيسي مؤخراً إلى إصدار قرار جمهوري يسمح للقطاع الخاص بإنتاج الكهرباء، ليس في مجال الطاقة الجديدة والمتجددة فحسب، ولكن تلك المحطات التي تعتمد على الوقود الأحفوري، مع الترويج لاستخدام الفحم في إنتاج الطاقة بمصر، على الرغم مما يعتري هذا التوجه من مشكلات تتعلق بالبيئة.
في إحدى الخطوات غير المسبوقة، اتخذت حكومة إبراهيم محلب قراراً بإعادة هيكلة الدعم، خاصة دعم الطاقة الذي كان يستنزف نحو 145 مليار جنيه كدعم سنوي، على أن يتم التخلص من هذا الدعم على مدار 4 سنوات، بداية من العام المالي الحالي 2014/2015، حيث تم تخفيض الدعم بنحو 51 مليار جنيه مصري.
وأعدت موازنة هذا العام حساباتها على متوسط سعر للنفط، بحدود 105 دولارات للبرميل، ولكن بعد مضى شهر واحد على بداية العام المالي الحالي، وعلى وجه التحديد في أغسطس/آب 2014، بدأت موجة هبوط أسعار النفط
"نخلص من هذه البيانات إلى أن مصر تعيش أزمة في موارد الطاقة، وهو ما دل عليه أداء هذا القطاع منذ عام 2012/2013 وحتى الآن"
في السوق العالمية، مما يجعلنا للوهلة الأولى نرصد وجود وفورات في تقديرات الموازنة المصرية لتكاليف النفط المستورد، حيث إن الفارق بين السعر المقدر بالموازنة وما هو قائم الآن في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الحالي، يصل لنحو 20 دولاراً للبرميل.
لكن ما يجعلنا نعيد النظر في هذا التقدير هو أن ما يعلن في سوق النفط حالياً يخص التعاقدات المستقبلية، وبالتالي نحتاج إلى شفافية في معرفة المعلومات الخاصة بطبيعة العقود المصرية، سواء مع الشركات الأجنبية المنتجة للنفط في مصر، والتي تقوم مصر بشراء حصتها من الإنتاج، أو من خلال العقود المبرمة مع موردي النفط لمصر على مدار الفترة المقبلة خلال العام المالي الحالي وما بعده، أو حتى تلك الأمور المتعلقة بتقديم الإمارات لتسهيلات في توريدات نفطية لمصر خلال العام الحالي تقدر بـ 8.5 مليارات دولار.
ما هي الأسعار المتفق عليها حتى يمكن اعتبار ذلك في صالح الموازنة العامة للدولة، أم لا، ولابد من الأخذ في الاعتبار أن التعاقد من خلال تسهيلات في الدفع عادة ما تكون أعلى من الأسعار السائدة في السوق بالدفع الفوري.
إن استفادة الموازنة العامة بمصر من انخفاض سعر النفط في السوق العالمي مرهونة بمعرفة هذه الأمور، طبيعة الواردات الحالية، وأسعار العقود الخاصة بها، سواء من الشركات المنتجة للنفط في مصر، أو الموردين الخارجيين، وكذلك طبيعة التعاقد على تسهيلات الإمارات النفطية على مدار العام.
وإذا سلمنا بفرضية أن مصر ستستفيد من انخفاض أسعار النفط لوارداتها، فلابد أن ننظر للجانب الآخر من المعادلة من أن صادرات مصر النفطية ستتأثر سلباً بهذا الانخفاض أيضاً، والموازنة العامة للدولة تضع الجانبين في الاعتبار، الصادرات والواردات النفطية، والتي ستتأثر قيمتهما بنحو 19 %، قيمة الانخفاض في أسعار النفط بالسوق العالمية.
والمعضلة في هذا الأمر، أن صادرات مصر آخذة في التراجع، بينما وارداتها تتجه للتصاعد، وبخاصة خلال المرحلتين الحالية والمقبلة.
ثمة فرصة للقطاع الخاص في مصر للاستفادة من انخفاض أسعار النفط في السوق العالمي، لكي يمكنه تخفيض
"بعد أن كان النفط على مدار نحو عقدين ونصف، أحد مصادر النقد الأجنبي في مصر، أصبح أحد مصادر استنزاف هذا النقد"
قيمة التكاليف لمنتجاته بمقدار الانخفاض الحاصل في أسعار النفط، وبالتالي إحداث نوع من الحراك في الاقتصاد والخروج من دائرة الركود، التي تنعكس دلالاتها على أداء الناتج المحلي الإجمالي، الذي تشير التقديرات إلى أنه لا يزال في قيمه المتدنية التي لم تتجاوز 2.2%.
ولكن هذا الافتراض يقوم على أساس أن توزيع الطاقة قد خرج عن سيطرة الحكومة وسمح بدخول القطاع الخاص لهذه الدائرة، حيث لا تزال الحكومة بمصر هي الموزع الوحيد للطاقة، وإن سمحت للقطاع الخاص بالإنتاج في بعض حلقات إنتاج الطاقة، ولكن هل سيسمح للقطاع الخاص بأن يقوم بنفسه باستيراد احتياجاته من الطاقة؟
بافتراض تحقيق هذه الخطوة والسماح للقطاع الخاص باستيراد النفط والغاز، فستبقى البنية الأساسية عقبة أمامه لدخول هذه الخطوة لحيز التنفيذ، فحتى الحكومة تواجه حالياً نقصاً في البنية الأساسية التي تسمح لها باستيراد الغاز المسال، وتحويله للحالة الغازية، فلا الموانئ المصرية مجهزة لهذه التكنولوجيا، ولا تتوافر خطوط لتوصيل الغاز لمناطق الاستهلاك في حالته الغازية، لذلك لجأت الحكومة المصرية الحالية للتعاقد مع محطة عائمة لتحويل الغاز من حالته السائلة إلى الحالة الغازية.
إن سيناريو استفادة مصر من الانخفاض الحادث في أسعار النفط بالسوق العالمي، يفترض استمرار هذا الانخفاض ولفترة قد تصل للأجل المتوسط، وهو افتراض تشوبه الكثير من الضبابية، لأن أسواق النفط لا تعرف الثبات لفترات تصل للأجل المتوسط، ولذلك فالعبرة بقدرة مصر على توقيع اتفاقيات لاستيراد النفط بهذه الأسعار المنخفضة، إذا ما توفرت لها موارد مالية تسمح بذلك، وهو ما ينفيه الواقع، فمصر في أزمتها المالية الحالية لن يكون لديها سوى الاستيراد بنظام التسهيلات الائتمانية، وهو ما يفقدها ميزة الاستفادة من انخفاض أسعار النفط.