اتجاه الأفراد في مصر لشراء الذهب والدولار ظاهرة تفرض نفسها، ولا ينكرها أحد، ومؤخرًا، حاولت الحكومة السيطرة على ارتفاع أسعار الذهب في السوق المحلية، بسماحها بدخول المعدن الأصفر مع العائدين من الخارج من دون جمارك، بشرط أن يكون الذهب للاستخدام الشخصي وليس للتجارة، وأن تُسدد ضريبة القيمة المضافة البالغة 14%.
كما أن السوق السوداء للدولار، وباقي العملات الأجنبية، أصبحت جزءًا من التعرف على سعر الصرف الحقيقي للجنيه، وبالتالي، فنحن أمام مجالات تمارس فيها المضاربة من قبل الأفراد من أجل الحفاظ على مدخراتهم، وتحقيق أرباح معقولة تمكنهم من مواجهة التضخم.
وظاهرة المضاربة في الاقتصاد المصري قديمة، يمتد عمقها إلى النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، وكانت مجالات المضاربة في الاقتصاد تأتي في ثلاث مجالات، هي: المضاربات على أسعار صرف العملات الأجنبية، والبورصة، والعقارات.
وكان كل مجال من هذه المجالات له وقته وظروفه التي ينشط فيها، وقلما حصل أن جمع السوق بين هذه المجالات في وقت واحد، لكن في ظل الظروف التي تعيشها مصر من خلال أزمتها المالية الحالية، يشهد الاقتصاد تركيزًا شديدًا على المضاربة في مجالي الذهب والعملات الأجنبية.
ولعل ما يعانيه سوق العقار حاليًا من ركود، منذ سنوات، لم يجعل المضاربة عليه ذات جدوى، أو لعلها غير نشطة في هذه الأونة.
وفي تطور جديد واكب مستجدات اقتصادية عالمية بانتشار ظاهرة العملات المشفرة، لم يدع المصريون هذا المجال من دون أن يمارسوا فيه المضاربة، ومنذ أشهر، أشار الإعلام المصري إلى أزمة كبيرة في مجال المضاربة على العملات المشفرة، عرفت باسم مجموعة أو شركة "هوج بول"، التي استولت على بضعة مليارات من الجنيهات من الأفراد في مصر.
حسب بيانات مؤشر مديري المشترين في مصر، يعاني النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص المصري من حالة ركود منذ سنوات، وبالتالي، فمجالات الاستثمار أمام الأفراد محدودة، كما أنها محفوفة بالمخاطر، من خسائر وإفلاس، وبالتالي فهم يبحثون عن مصدر مأمون، وله عائد يمكنهم من تحقيق أرباح، وفي نفس الوقت، يعوضهم عن ممارسهم أنشطة اقتصادية غير مجزية.
أيضًا، معدلات التضخم المرتفعة حاليًا، والتي لا يعرف لها اتجاه هبوطي في المدى القريب، بسبب الأزمة المالية التي تعنيها الحكومة، فمعدل التضخم، حسب بيانات البنك المركزي، وصل إلى 40%، ولا يجد الأفراد أي مبرر لوضع أموالهم في البنوك، بسبب الفارق الكبير بين سعر الفائدة ومعدلات التضخم.
كما أن الأدوات الادخارية التي تعلنها البنوك، من شهادات ادخار، لا تتسم بالديمومة أو استمرار العائد منها، فهي تبدأ بمعدل عال، ثم ينخفض بعد العام الأول، ما يساعد على فقدان الثقة من قبل الأفراد في هذه الأدوات.
ولعل تجربة أصحاب المدخرات مع الشهادات الخاصة بسندات توسعة قناة السويس خير دليل، فالأفراد اشتروا الشهادات بعائد 12%، ثم فوجئوا، بنهاية 2016، بسعر الفائدة في البنوك يصل إلى 18%، وعلى بعض الشهادات لنحو 20%.
نعم الحكومة حاولت تعويضهم بعد ذلك برفع العائد على شهادات توسعة قناة السويس إلى 15%، ولكن لم يكن هذا التعويض مجزياً مقارنة بمعدلات التضخم، أو أسعار الفائدة السائدة في السوق آنذاك.
ما يميز سوق المضاربة على الذهب والعملات الأجنبية، بالنسبة للأفراد والمؤسسات هو سرعة تسييل تلك الأصول، عند احتياج الأفراد لتلك الأموال، أو عند شعورهم بالخطر الذي يحدق بتلك الممارسات.
كما أن الفرص المتاحة للأفراد على وجه التحديد في سوق المال (البورصة) غير آمنة، وبخاصة لأصحاب المدخرات الصغيرة والمتوسطة، فيذهبون إلى الذهب والعملات الأجنبية، ولعل المتابع أداءَ البورصة خلال السنوات الماضية، وتعرضها لخسائر كبيرة، يعرف سبب إعراض الأفراد عنها.
ولو أن الحكومة قامت بدورها مروجاً للمشروعات، وأنشأت مجموعة من الشركات لاستيعاب تلك الأموال، من خلال بيع أسهم المشروعات الجديدة للأفراد، أو أن القطاع الخاص قام بهذا الدور بطرح مشروعات جديدة تسمح باستيعاب أموال المضاربة، لكان ذلك أفضل، ولكن مناخ الاستثمار بمصر يعاني من التضييق، بسبب استمرار توسع الجيش في السيطرة على مقدرات الاقتصاد المدني.
كما أن ما فرضته السياسات الاقتصادية، المتبعة في مصر منذ نحو 10 سنوات، جعلت تكاليف الإنتاج وممارسة النشاط الاقتصادي مرتفعة، حتى التجارة أصبحت مخاطرة، بسبب ارتفاع تكاليف الاستيراد، وعدم توفر العملات الصعبة من خلال الجهاز المصرفي.
بيانات البنك المركزي تبين مدة أزمة توفير الدولار بالجهاز المصرفي، من خلال العجز الذي تشهده الأصول الأجنبية للبنك المركزي، وكذلك باقي وحدات الجهاز المصرفي، حيث قدر هذا العجز مؤخرًا بنحو 24.4 مليار دولار في مارس/آذار 2023.
كما أن تحويلات العاملين بالخارج تراجعت وفق بيانات ميزان المدفوعات لمصر خلال النصف الأول من العام المالي 2022/ 2023، حيث بلغت قيمة هذا التراجع 3.6 مليارات دولار، وكانت القراءة التفسيرية لهذا التراجع هي الفجوة الكبيرة في سعر صرف الدولار بين السوق الرسمية والسوق السوداء، ما دفع المهاجرين المصريين للتعامل في السوق السوداء والاستفادة من فروق الأسعار.
تقدر المدخرات غير الرسمية في مصر بأنها تعادل أو تقل قليلًا عن المدخرات الرسمية بالبنوك، ويرجع ذلك لأسباب كثيرة، تتعلق بفرض الضرائب والرسوم من قبل الحكومة، والمغالاة في ذلك، من دون أن يحصل الأفراد على خدمات مقابل هذه الضرائب والرسوم.
ولذلك يحرص المضاربون على أن تجرى تعاملاتهم في أنشطة المضاربة بعيدًا عن أعين الحكومة، وبذلك يحتفظون بكامل عوائد أنشطتهم في مجال المضاربة، وتعكس هذه الظاهرة حالة عدم الثقة بين المجتمع والحكومة من جانب، ومن جانب آخر غياب القنوات الاستثمارية الرسمية القادرة على استيعاب هذه الأموال، ووقف أنشطة المضاربة.
المضاربة في النشاط الاقتصادي، يصفها البعض بأنها بمثابة الملح من الطعام، فلا يوجد اقتصاد في دولة ما يخلوا من أنشطة المضاربة، ولكن المشكلة أن تغلب المضاربة على النشاط الاقتصادي، وأن تتسبب في أضرار اقتصادية تؤدي إلى تركز الثروة في يد عدد قليل من أفراد المجتمع، وتحرم الدولة من حقها في تحصيل الضرائب والرسوم.
وبطبيعة الحال، فإن حل تلك المشكلة لا يكون من خلال ترسانة من القوانين والقرارات الإدارية، أو الإجراءات الأمنية، فذلك يؤدي إلى هروب الأموال إلى الخارج، ويتفنن الأفراد في الالتفاف على تلك القوانين والإجراءات، ولعل ما يحدث في السوق السوداء للعملات الأجنبية خير دليل.
ولكي تتمكن الحكومة المصرية من مواجهة أنشطة المضاربة، فعليها أولًا: أن توجد جسرًا من الثقة بينها وبين أفراد المجتمع، ولن يتحقق هذا إلا من خلال حياة ديمقراطية سليمة، وسيادة دولة القانون، وثانيًا: أن تقوم الحكومة بإصلاح ما أفسدته عبر ممارساتها السابقة في المجالين السياسي والاقتصادي، وعلى رأس تلك الممارسات دخول الجيش وسيطرته على أنشطة الاقتصاد المدني، وأن تتوقف الحكومة عن ممارساتها التي أدت إلى تعميق أزمة النقد الأجنبي، وكذلك معالجة تلك الآثار في أقرب وقت، ولعل أبرز تلك الممارسات التوسع غير المبرر في الاقتراض العام، وبخاصة الاقتراض الخارجي، ما يفرض أعباء مرهقة ومقيدة للنشاط الاقتصادي في مصر.