قفزت إلى السطح عدة مشكلات اقتصادية واجتماعية بمصر، خلال الفترة الماضية، أبرزها أزمة شح الدولار وعدم توفّره بالكميات المطلوبة لسد الاحتياجات الاستيرادية التي بلغت ما يزيد عن 80 مليار دولار بنهاية العام المالي 2021/ 2022، ، وفق بيان ميزان المدفوعات على موقع البنك المركزي المصري.
ومن دلالة اضطراب السياسة النقدية تجاه سعر الصرف أنّ البلاد تعيش حالة غير مسبوقة من ظاهرة "الدولرة"، أي اكتناز الدولار من قبل المدخرين، أو الإسراع لاقتناء الذهب، حفاظاً على ما تبقى من مدخرات لدى شريحة من المواطنين.
وتمثل مشكلة ارتفاع الأسعار معاناة يومية للمواطن، فلا مجال للمقارنة بين الأجور المحدودة والأسعار التي ترتفع بشكل يومي، وقد ترتفع الأسعار لبعض السلع أكثر من مرة في اليوم الواحد. وهو ما يجعل الحديث عن مراعاة الحكومة لأوضاع المواطنين تجاه ارتفاع الأسعار كظاهرة عالمية، يفتقد لكثير من المصداقية.
وطبيعي أن تكون هذه الأجواء ذات دلالة سلبية على مناخ العمل والإنتاج، حيث عكست بيانات مؤشر مديري المشتريات عن أداء سلبي للقطاع الخاص غير النفطي بمصر، مع نهاية نوفمبر 2022، ليعكس المؤشر درجة 45.4، وهو ما يعني تحقيق حالة ركود، ووفق المنشور عن تقييم هذا المؤشر، فإن الأداء السلبي لهذا القطاع كان مستمراً على مدار العامين الماضيين.
وتجاه معاناة الوضع الاقتصادي الحكومي، تم التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، تحصل مصر بموجبه على قرض جديد، بقيمة 3 مليارات دولار، ويتيح الاتفاق لمصر الحصول على 14 مليار دولار من جهات أخرى.
لكن هذا الاتفاق ألزم الحكومة بمجموعة من الإجراءات، على رأسها زيادة الموارد الحكومية، لتقليص العجز بالموازنة العامة للدولة، وكان آخر تلك الإجراءات التي تحاول الحكومة تمريرها، تفعيل نظام الفاتورة الإلكترونية، لأصحاب المهن الحرة، وهو ما وجه إلى الآن بمعارضة واضحة من قبل النقابات المهنية وفي مقدمتها نقابة المحامين، التي نظمت مظاهرتين كبيرتين للاعتراض على هذه الآلية، وهو ما قد يدفع لتحرك مهن أخرى للاعتراض على الفاتورة الإلكترونية، بل قد يدفع باقي شرائح المجتمع للتظاهر اعتراضاً على السياسات الاقتصادية برمتها
والمتابع للشأن الاقتصادي والاجتماعي في مصر لا يفوته تفاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعية، بخاصة من قبل فئات مهمشة، والأدهى أنّ الظاهرة تشمل صغار السن، ولم تقتصر الظاهرة على نطاق جغرافي معين، بل تشمل الوجهين البحري والقبلي.
وغير مرة، وفي أكثر من مناسبة، صدر السيسي خطابه للشعب المصري، أنّ موارد الدولة قاصرة عن تلبية تحقيق الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية، فمرة يتحدث أنّ موازنة دولة مثل مصر بمشكلاتها الحالية تحتاج إلى تريليون دولار، أو يعتمد أسلوب تصدير المشكلات للشعب، والتي كان آخرها، طرحه لسؤال على الشعب، كيف يدبر 3 ملايين وظيفة خلال السنوات الثلاث المقبلة، وكأنّ الحكومة بوزاراتها ومؤسساتها عاجزة عن التفكير والتدبير لهذا الأمر، وهي محاولة لتبييض وجهه، ووجه حكومته تجاه المشكلات الاقتصادية.
أما الحديث عن مشكلة السكان ومعدلات زيادتهم، فلا يغيب عن الخطاب الحكومي من وزراء ومسؤولين، بل وللسيسي نفسه، وكأنّ الأمر لم يكن واضحاً، بشأن الزيادة السكانية!
إنّ أهم مفردات التخطيط الاقتصادي والاجتماعي، الوقوف على عدد السكان ومعدلات زيادته، وانعكاس ذلك على الإيرادات والنفقات العامة للدولة، وبالتالي العمل على مواجهة المشكلة، والبحث عن حلول لها، وليس اعتمادها كشماعة للهروب من مواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
وثمة معضلة تتعلق بإدارة الدين العام، فمتوالية الديون لا تُعرف لها نهاية، فالدين العام الخارجي بلغ 172 مليار دولار، والدين العام المحلي تجاوز الـ 5 تريليونات جنيه، ولا أحد يجيب عن سؤال: وماذا بعد؟
فمشكلة المديونية العامة في مصر أنّها ديون الحكومة ومؤسساتها فقط، ومتى تتوقف هذه الديون؟ ومتى تسدَّد؟ أمور لا يجيب عنها البيان المالي للموازنة العامة للدولة في كل عام.
قبل أن نشرع في تناول أسباب أزمة الإدارة بالاقتصاد المصري، نشير إلى المقصود بأزمة الإدارة، والتي نقصد بها غياب ترتيب أولويات الإدارة الاقتصادية، من ضروريات ومهام يجب القيام بها، في الآجال المختلفة (القصيرة، والمتوسطة، والطويلة) وكذلك إجراء موازنة دقيقة لاعتبارات الإيرادات والنفقات، وتجنيب البلاد الوقوع في فخ المديونية.
- غياب الاهتمام بالأنشطة الإنتاجية ودعمها بشكل مباشر، لكي تؤدي دورها في توفير السلع والخدمات للمجتمع، وبما يؤدي لتقليص العجز في الميزان التجاري السلعي، الذي قفز إلى ما يزيد عن 40 مليار دولار.
- التوسع في عملية تصفية وبيع الأصول الرأسمالية، وتحويل بعض أصولها من أراضٍ لمشروعات عقارية، وبذلك تحرم الموازنة العامة من فوائض تلك الشركات المبيعة، كما يحرم الاقتصاد من السلع والخدمات التي كانت تقدمها الشركات التي تمت تصفيتها.
- ضبابية تعامل النظام مع بعض مكونات القطاع الخاص الناجح، وتعمد اعتقال أصحابه، وشيوع حالة من عدم الثقة لدى المستثمرين المحليين والأجانب، كما حدث مع شركة جهينة، ومحلات التوحيد والنور، والعديد من المشروعات الصغيرة والمتوسطة، المملوكة لمن يراهم النظام خصومه السياسيين.
- اعتماد توجهات شخص رئيس الجمهورية لتنفيذ مشروعات غير مدروسة، من حيث احتياج الاقتصاد لها، منذ 2013 وحتى الآن، ولا يحتاج الأمر إلى بيان وشرح وسرد أمثلة، فالجميع يعلم ما تم في توسعة قناة السويس، وإنشاء العاصمة الجديدة، وإقامة مشروعات للبنية الأساسية لا ضرورة لها خلال السنوات العشر القادمة على الأقل.
- تهميش المؤسسات ذات الخبرة في التخطيط والتنفيذ للمشروعات الكبرى، التي كانت نتيجتها أزمة سيولة بشكل كبير، والتورط في ديون محلية وخارجية، لا تُعرَف لها نهاية، ولا تؤمن تداعياتها السلبية، في ضوء التعثر المالي لمصر، من ذلك تهميش بيوت الخبرة الحكومية، أو عدم تفعيل الأجهزة الرقابية.
- الإنفاق بشكل كبير على شراء الأسلحة، حتى غدت مصر واحدة من أكبر 5 دول على مستوى العالم في مشتريات السلاح، وهو ما لا يتوافق وظروف البلاد المالية من جهة، وكذلك حالة السلم التي تعيشها مصر مع جيرانها، وخير دليل على السلوك السلمي المسيطر على القوات المسلحة، توسعها بشكل كبير في الاقتصاد المدني، وبخاصة منذ 2013.
والأمر الذي تناولته الكتابات المحلية والأجنبية، توحش القوات المسلحة في الاقتصاد المدني، وسيطرتها على كافة مفاصل الاقتصاد، بحيث أصبحت الفرصة الوحيدة أمام قطاع الأعمال العام والخاص، هي أن يتم الحصول على عقود الباطن من القوات المسلحة، ويفتح ذلك الباب أمام إشكاليات كثيرة تتعلق بالشفافية وغياب المنافسة لصالح القوات المسلحة في الشأن الاقتصادي المدني.
قبل عام 2013، لم تكن الإدارة الاقتصادية بمصر، في حالة مثالية، فالمشكلات المزمنة كانت قائمة، وركزت مطالب ثورة يناير في البعد الاقتصادي على تخلص مصر من هذه المشكلات، والانطلاق نحو تنمية حقيقية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، لكن بعد عام 2013، أصبحنا نرى المزيد من التدهور، وتعميق مشكلات مصر الاقتصادية، ولا حلّ إلّا بإصلاح الإدارة الاقتصادية.