تراجع معدلات الإنتاج
الفجوة التمويلية
المناخ السلبي للاستثمار
يُعدُّ معدل النمو الاقتصادي لأية دولة المؤشر الذي تُبنى عليه العديد من الحسابات الاقتصادية القومية، فبناء على معدل النمو تقاس قدرة الاقتصاد على استيعابه للداخلين الجدد لسوق العمل، ومدى قدرته على الوفاء باحتياجات سكانه، وبخاصة إذا كانت معدلات زيادته السكانية تتسم بالارتفاع، كما هو الحال في مصر، أيضًا يعكس معدل النمو الاقتصادي حالة الركود أو الرواج بالاقتصاد القومي، ويعرف من خلال معدلات النمو قدرات المجتمع على الادخار والاستثمار.
ويعاني الاقتصاد المصري بشكل عام من بطء معدلات النمو الاقتصادي، باستثناء السنوات من 2005-2006 إلى 2007-2009، ولكن المسلّم به أن مصر تعاني من عدم استدامة معدلات نموها، فبخلاف الفترة المذكورة لم يتجاوز معدل النمو الاقتصادي 4% في أحسن الأحوال خلال العقود الثلاثة الماضية.
ومع نجاح ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، شهد معدل النمو الاقتصادي تراجعًا ملحوظًا تراوح ما بين 2.1% و2.2%، وتأمل الحكومة الحالية من خلال خطتها العامة للعام المالي 2014-2015 أن تصل بمعدل النمو الاقتصادي إلى 3.2%، بزيادة قدرها 1% عما هو متوقع خلال العام المالي الماضي المنتهي في يونيو/حزيران 2014.
وخلال الأيام القليلة الماضية، صنّف البنك الدولي في أحد تقاريره الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط مصر ضمن ست دول تعاني من اتباع سياسات اقتصادية سيئة تعوق تحقيق النمو المستدام، ولا يحتاج الأمر إلى الكثير من الاستدلال، فلا تزال موازنة مصر يغلب عليها الطابع الاستهلاكي وطغيان الإنفاق الجاري، فضلا عن تكبيلها بأعباء العجز والدين وسوء تخصيص الموارد.
وبفرض تحقيق ما تستهدفه الحكومة من معدلات للنمو، فإنها تبقى متواضعة، إذ يتطلب الأمر لمواجهة البطالة والفقر واستيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل والمقدر عددهم سنويًا بـ850 ألف فرد، أن ينمو الاقتصاد المصري بمعدل من 6% إلى 7%، ولمدة عشر سنوات متصلة.
وبالإضافة إلى هذه الأسباب السابقة، فإن معدل الزيادة السكانية السنوية بمصر المقدر بـ2.6% خلال عام 2013 يستدعي أن يكون معدل النمو الاقتصادي ثلاثة أضعاف معدل الزيادة السكانية، أي نحو 7.5%، وما لم يتحقق ذلك فإن مصر ستظل في دوامة الفقر والبطالة، وما يترتب عنهما من تداعيات سلبية اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا.
ومن خلال رصد العديد من الشواهد التي تخص أداء الاقتصاد المصري، نجد أنه من الصعوبة بمكان أن تحقق مصر معدل النمو المتواضع والمستهدف بنسبة 3.2% خلال العام المالي 2014-2015، وفيما يلي نسرد بعض هذه المشاهد:
نشرت جريدة الأهرام بتاريخ 15 أغسطس/آب الحالي أن مدينة المحلة الكبرى انقطع عنها التيار الكهربائي لمدة ثماني ساعات متصلة لليوم العاشر على التوالي، مما أدى إلى غلق مصانع النسيج هناك، وكذلك المحال التجارية، والدلالة هنا أن أزمة الطاقة تمسك بتلابيب الاقتصاد المصري، لتشل مفاصله، فمن دون توفير الطاقة كيف تدور عجلة الإنتاج والتنمية؟
"
هناك أمثلة متعددة تدلل على صعوبة تحقيق معدلات النمو المستهدفة، فغير مرة يعبّر مسؤولون بشركات الأسمدة عن العجز في إمدادات الغاز الطبيعي لمصانعهم"
المعروف أن مدينة المحلة الكبرى واحدة من قلاع الإنتاج في مصر، وهي ليست وحدها التي تعاني من انقطاع الكهرباء وتأثير ذلك على إنتاج السلع والخدمات، ويجب أن نستوعب أن الضرر لا يمس الوحدات الإنتاجية فقط، بل يمتد ليصل إلى قطاع الخدمات كذلك، وهذا ضرره أكبر على معدل النمو الاقتصادي، إذ لا يزال الاقتصاد المصري يعاني من خلل هيكلي، وهو أن الاستهلاك يعد مصدر 85% من مكونات الناتج المحلي الإجمالي.
هناك أمثلة متعددة تدلل على صعوبة تحقيق معدلات النمو المستهدفة، فغير مرة يعبّر مسؤولون بشركات الأسمدة عن العجز في إمدادات الغاز الطبيعي لمصانعهم، ويرهنون الوفاء بحصتهم في الأسمدة للحكومة بحصولهم على حصتهم في الغاز. وترصد وسائل الإعلام انقطاع التيار الكهربائي عن العديد من المناطق، وبخاصة في الإقليم لنحو 10 ساعات، بينما في مدن القاهرة الكبرى تصل فترة انقطاع الكهرباء لنحو ثلاث ساعات متفرقة على مدار اليوم، وهي ظاهرة سلبية لها تأثيرها على إنتاج السلع والخدمات في هذه المناطق.
حصلت مصر على دعم كبير زاد عن 20 مليار دولار من دول الخليج خلال العام الفائت، وتأمل في الحصول على المزيد خلال العام المالي الحالي 2014-2015، وإن كانت تصريحات المسؤولين الخليجيين تدل على انخفاض الدعم هذا العام بمعدلات كبيرة، وأنهم يعوّلون على مساعدة المؤسسات الدولية لمصر خلال المرحلة المقبلة.
ومن مظاهر تأثير الفجوة التمويلية في مصر انخفاض احتياطي النقد الأجنبي إلى 16.7 مليار دولار في نهاية يوليو/تموز 2014، على الرغم اعتماده على الودائع الخليجية والتركية، وفقدانه الموارد الذاتية، وهو ما اضطر مصر للجوء للاقتراض من الخارج لسداد جزء من استحقاقات شركات البترول الأجنبية.
"
إقدام مصر على طرح سندات دولية بضمانة إماراتية يعني أن التصنيف الائتماني لمصر ضعيف وتحتاج ضمانة من دولة أخرى"
وصرح وزير البترول المصري شريف إسماعيل بسعي حكومته لاقتراض نحو 1.5 مليار دولار من الخارج عبر بنوك أجنبية لسداد جزء من مديونية شركات البترول الأجنبية، والمقدرة بـ5.8 مليارات دولار في نهاية يونيو/تموز 2014.
وثمة دلالة أخرى على مشكلة الفجوة التمويلية بمصر، فقد نشرت وسائل الإعلام خبرا مفاده إقدام مصر على طرح سندات دولية بضمانة إماراتية، وهو ما يعني أن التصنيف الائتماني لمصر ضعيف ويؤدي إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض من الخارج إذا ما أقدمت عليه مصر من دون ضمانة من قبل دولة أخرى وضعها الائتماني أفضل.
ومن الدلالات المخيفة في قضية الفجوة التمويلية تقدير الخطة العامة للدولة لمعدل الادخار والاستثمار المستهدفين، ففي حين يقدر معدل الاستثمارات الكلية بـ14% من الناتج المحلي الإجمالي، نجد أن معدل الادخار المستهدف هو 6.8%، وهو ما يعني أن هناك فجوة في التمويل المحلي تصل إلى 7.2%.
ونجد أن الاقتراض المحلي للحكومة أصبح كارثة بعد وصول الدين العام المحلي لما يزيد عن 1.7 تريليون جنيه، وفي نفس الوقت فإن الاستثمارات الأجنبية المباشرة لا تزال متواضعة في مصر، وحتى ما يأتي منها في الغالب يكون في قطاع الصناعات الاستخراجية.
وفي الوقت الذي تعول فيه الخطة العامة للدولة على مساهمة القطاع الخاص بحوالي 70% من الاستثمارات الكلية، اتخذ البنك المركزي الشهر الماضي قرارًا برفع سعر الإقراض بنحو 1%، وهو ما يعني أعباء جديدة لتكلفة التمويل لاستثمارات القطاع الخاص، وهو القرار الذي حكم الجميع بخطئه في ظل أوضاع الركود الحالية التي يعاني منها الاقتصاد بمصر.
لا بديل عن زيادة الاستثمارات بمصر للخروج من أزمتها الاقتصادية، سواء كان مصدر هذه الاستثمارات الداخل أو الخارج، ولكن المتابع للشأن المصري يجد أن مناخ الاستثمار يعاني من سلبيات متعددة، آخرها ما ذكرناه عن قرار رفع سعر الفائدة بالبنوك، وإن كان الداعي له ارتفاع معدلات التضخم، فالتضخم يُعالج بالقضاء على أسبابه، وليس بالاعتماد فقط على عامل واحد وهو سعر الفائدة.
"
لم تنقطع فعاليات المعارضين للانقلاب العسكري بمصر، والتي يقابلها تصعيد أمني وقمعي، وهو ما يعطي دلالات سلبية على غياب الاستقرار
"
الأمر الثاني حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني، فعلى مدار عام كامل لم تنقطع فعاليات المعارضين للانقلاب العسكري بمصر، والتي يقابلها تصعيد أمني وقمعي من قبل قوات الأمن، وهو ما يعطي دلالات سلبية على غياب الاستقرار السياسي والأمني، فضلا عن استمرار الانقلاب في رغبته بعدم الدخول في أية مفاوضات من شأنها أن تؤدي إلى مصالحة وعدم استبعاد الفصيل السياسي المعارض.
وكذلك التوجه الذي يتبناه السيسي من إقحام الجيش في الحياة الاقتصادية العامة، الذي كان آخره إسناد جزء كبير من مشروع تطوير قناة السويس للجيش، وأيضًا دعوته للتبرع لحساب "تحيا مصر"، واستهداف جمع مبلغ 100 مليار جنيه مصري بلا هدف محدد وبلا برامج أو مشرعات محددة. وقد مارس الإعلام وبعض الحركات الشعبية المؤيدة للسيسي نوعًا من الابتزاز لإجبار رجال الأعمال من أجل التبرع للصندوق من خلال عزمهم إعداد قائمة سوداء بأسماء رجال الأعمال الذين لم يتبرعوا لحساب "تحيا مصر".
لا شك أن مناخ استثمار تسوده هذه الروح من غياب القانون والمساءلة، أو الابتزاز، لا يمكن أن يشجع على الوجود أو الدخول فيه، فعندما نقرأ تصريح رجل الأعمال المصري محمد فريد خميس لوسائل الإعلام بتاريخ 12 أغسطس/آب الحالي بأنه اقترض من البنوك لكي يتبرع بـ30 مليون جنيه مصري لحساب "تحيا مصر"، فإننا أمام ظواهر سلبية نستشعر منها أن ضغوطا ما -بغض النظر عن مصدرها- تُمارس على رجال الأعمال، فإذا كان الرجل يعلن أن أرباح مجموعته النصف السنوية بلغت 251 مليون جنيه، فكيف يعجز عن دفع 30 مليون جنيه من تلك الأرباح لحساب "تحيا مصر".
ما الجديد إذا كان رجال الأعمال يقترضون أموال الجهاز المصرفي ليتبرعوا بها لحساب "تحيا مصر"؟ فحتى يتحرك معدل النمو الاقتصادي بمصر بشكل جديد، فالواجب على رجال الأعمال أن يأتوا باستثماراتهم من الخارج ليضخوها في مصر، وبذلك نكون أمام دماء جديدة تدخل شرايين الاقتصاد المصري.
وفي الختام، إذا كان الاقتصاد المصري قد حقق 2.2% معدلا للنمو في نهاية 2013-2014 بعد الحصول على مساعدات خارجية قدرت بـ180 مليار جنيه مصري، فكيف يحقق معدلا أكبر في ظل تراجع حاد لهذه المساعدات، ووجود العديد من العقبات، التي ذكرنا بعضها في سطور هذا التحليل؟