بعد أن وصلت معدلات التضخّم في مصر إلى ما يزيد عن 30% خلال الأشهر الماضية، تحاول الحكومة تحجيم هذه المعدلات المرتفعة، لمواجهة الأعباء السلبية لمستوى المعيشة، خصوصاً لدى الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وكذلك عملًا بتوصيات صندوق النقد الدولي.
وتجد الحكومة نفسها مجبرة على مواجهة التضخّم لأسباب أخرى، على رأسها عجزها عن مواجهة زيادة الأسعار بزيادة مماثلة في الأجور، إذ إنّها ملزمة، بحكم تعليمات صندوق النقد، بتخفيض عجز الموازنة، ومن ضمن بنود الإنفاق المستهدفة بالتخفيض بند الأجور والمرتبات الذي يقترب من نسبة 25% من قيمة الإنفاق العام.
وعلى الرغم من كافة الإجراءات التي اتخذت من تخفيض بنود الدعم بأنواعه المختلفة (السلعي والخدمي)، وزيادة أسعار العديد من الخدمات الأساسية (الكهرباء والغاز والمياه) إلا أن الحكومة ما زالت تفشل في الوصول بعجز الموازنة إلى النسبة المستهدفة، ففي العام المالي 2016 /2017 كانت النسبة المستهدفة 9.8%، إلا أن تصريحات عمرو الجارحي، وزير المالية، تبيّن أن العجز وصل إلى 10.9%، وفي ضوء توسع الحكومة في الاستدانة العامة سيكون من الصعب الوصول بالعجز إلى النسبة المستهدفة في موازنة 2017 /2018، وهي 9%.
ومؤخراً أصدر البنك المركزي تعليماته للبنوك برفع نسبة الاحتياطي الإلزامي لتصل إلى 14% بداية من 10 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، مقابل 10% منذ عام 2012، بغرض سحب نسبة من السيولة من السوق، لتقل معدلات الاستهلاك، وهو ما سيؤدي إلى زيادة معدلات الركود، إذ ستكون المساحة المتاحة للبنوك لإقراض العملاء أقل مما كانت عليه من قبل.
حسب بيانات النشرة الإحصائية للبنك المركزي المصري عن شهر أغسطس/ آب، يتبيّن من المركز المالي للبنوك (بخلاف البنك المركزي) أن الودائع لدى البنوك بنهاية يونيو/ حزيران 2016، تصل إلى 3.043 تريليونات جنيه، والاحتياطيات 185 مليار جنيه.
وتتضمّن هذه الودائعودائع الحكومة؛ بما قيمته 523 مليار جنيه تقريبًا، وودائع غير الحكومية (القطاع العائلي والقطاع الخاص) 2.519 تريليون جنيه. أي أن قرار البنك المركزي بشأن رفع نسبة الاحتياطي الإلزامي بنسبة 4%، سيؤدي إلى تقليص الودائع المتاحة للبنوك بنحو 121 مليار جنيه.
على صعيد الإجراءات الخاصة بالسياسة النقدية قد يكون قرار البنك المركزي إيجابياً للحد من السيولة في السوق، وبالتالي التأثير على الطلب، للوصول إلى نتيجة مفادها تخفيض معدلات التضخم، لكن العوامل الأخرى والمتغيّرات الاقتصادية الكلية، سينالها كثير من السلبيات التي توصلنا لاستمرار أزمة الاقتصاد، وعدم خروجه من الدائرة المفرغة لمعضلته الاقتصادية، ونوضح ذلك في ما يلي:
- تبلغ مساهمة الاستهلاك الكلّي من الناتج المحلي ما يزيد عن نسبة 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وسيؤدّي قرار رفع نسبة الاحتياطي إلى التأثير على السيولة المتاحة لدى الأفراد لتلبية احتياجاتهم من استهلاك السلع والخدمات، وهو ما يعني تراجع نسب البيع والشراء، وزيادة نسب الركود بالاقتصاد المصري.
ومؤخرًا أظهر مؤشر مديري المشتريات، والذي يصدره بنك الإمارات دبي الوطني، تراجعاً في إجمالي أحوال القطاع الخاص المصري بنهاية يونيو/ حزيران 2017، بتقويم 47.2 درجة، ويعتبر المؤشر الحصول على درجة أقل من 50 وقوع الاقتصاد في دائرة الانكماش. وبلا شك فإن سحب نسبة ما من السيولة في السوق سوف يؤثر، بشكل كبير، على تعميق حالة الانكماش والركود.
- لن تكون التداعيات السلبية لتقليص المساحة المتاحة للبنوك بالتصرّف للإقراض قاصرة على المستهلكين، بل ستكون لها دلالاتها السلبية على المنتجين كذلك، إذ ستنخفض قيمة القروض المتاحة للمستثمرين من البنوك.
ويتعارض هذا مع ما أعلنته الحكومة في الخطة العامة والموازنة للدولة للعام المالي 2017 /2018، بزيادة الاستثمارات الكلية إلى 646 مليار جنيه، مقابل 530 مليار جنيه في العام المالي 2016 /2017، بزيادة 21.9% بين العامين، وقرار رفع نسبة الاحتياطي الإلزامي سيكون أحد العوامل التي تؤدّي إلى تقليص التمويل المتاح للاستثمارات الكلية (العامة والخاصة).
- يعد تصرف السياسة النقدية بشكل عام نحو تقليص السيولة ضد متطلبات الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر، فمعالجة الأزمة الاقتصادية المصرية، والتي يعد الركود والانكماش أهم سماتها، وكذلك ارتفاع معدلات البطالة والتضخم والفقر، أن تتوسع الحكومة في الإنفاق عبر الاستثمارات الإنتاجية، لتزيد من القيمة الحقيقية للاقتصاد، وزيادة مساحة الدخول الحقيقية للأفراد، والعمل على تقليص الاعتماد على الخارج. ولكن ما زالت الحكومة منصرفة إلى مشروعات ذات قيمة مضافة ضعيفة، مثل مشروعات البنية الأساسية في المشروعات الكبرى، مثل العاصمة الإدارية الجديدة.
من المؤشرات التي يجب أن نقرأها بعناية زيادة مساهمة الأجانب في رصيد أذون الخزانة للحكومة، فوفق بيانات يوليو/ تموز 2017 بلغت 238.4 مليار جنيه، ما يمثل نسبة 26% من إجمالي رصيد الأذون القائمة في نفس التاريخ، ومؤخرًا أعلنت وزارة المالية أن مساهمة الأجانب في أدوات الدين العام (الأذون+ السندات) بلغت 18 مليار دولار بنهاية أغسطس/ آب 2017، وتستهدف الحكومة أن تصل مساهمة الأجانب إلى 20 مليار دولار بنهاية 2017.
وبلا شك فإن مساهمة الأجانب في أدوات الدين العام بنسبة 26% تتطلب إزاحة المستثمرين المحليين وعلى رأسهم البنوك، والخطر هنا أن الأجانب يقومون بتحويل عوائد توظيف أموالهم في أدوات الدين المحلي إلى الخارج سنوياً، بينما البنوك المصرية تُعيد إدارة العوائد في السوق المحلي، وهو ما يعني أن هذه الاستثمارات للأجانب ستكون على حساب ما يتوفر لمصر من نقد أجنبي، خصوصاً بعد أن انخفضت قيمة الدولار أمام الجنيه لنحو 17.60 جنيهاً للدولار.
وإن كانت استثمارات الأجانب في أدوات الدين العام لمصر تُتيح مساحة تمويلية، خصوصاً من النقد الأجنبي، إلا أن العبرة في طريقة توظيف هذه الأموال، لتكون في مشروعات تحسّن من أداء الناتج المحلي الإجمالي، ولكن واقع الأمر أن هذه الأموال تستخدم في إطار ما يسمّى "تدوير الديون"، وهو ما ظهرت نتيجته من خلال زيادة أعباء الدين العام بنهاية 2016 /2017 بنسبة 30%، حسب تصريحات عمرو الجارحي وزير المالية.
من الضروري ألا تنفرد السياسة النقدية بقيادة الاقتصاد المصري من دون اعتبار لتأثيراتها السلبية على باقي مكونات السياسة الاقتصادية (المالية، والتجارية، والتوظيف، والاستثمار)، حتى يمكن لأدوات هذه السياسة أن تُسفر عن أداء إيجابي يساند مستهدفات السياسة النقدية، فمواجهة التضخم لا تتم فقط من خلال أدوات السياسة النقدية، ولكن هناك جوانب أخرى تتعلق بجانب العرض الخاص بقضية التضخم، وهي تلك الجوانب المتعلقة بخفض تكاليف الإنتاج.
فالأمر يستلزم تخفيض سعر الفائدة في البنوك المصرية، فضلًا عن تخفيض باقي مكونات تكاليف الإنتاج من وقود ومياه وكهرباء وباقي الخدمات الحكومية، وهو ما لن تسمح به تعليمات صندوق النقد الدولي، ولذلك ستبقى معضلة مصر الاقتصادية قائمة، لا يصلح معها تعامل الجزر المنعزلة، أو الانسياق خلف أجندة البنك والصندوق الدوليين، بالتركيز على الجانب الرقمي للإصلاح، وإهمال الجوانب الإنتاجية والتنموية.
وإذا كان البنك المركزي يستهدف خفض التضخّم من خلال رفع نسبة الاحتياطي الإلزامي، فإن ارتفاع سعر الوقود المنتظر خلال الأيام المقبلة سيُفسد خطته