مع تراجع مدخرات المصريين بعهد السيسي فالطبيعي أن تتجه الحكومة للتوسع في الاستدانة لتصل الديون العامة إلى قيم غير مسبوقة.
الواردات المصرية من الخارج في تزايد مستمر سواء فيما يتعلق بخطوط إنتاج وقطع غيار أو وسائل انتقال أو مستلزمات إنتاج، أو سلع نهائية.
تراجعت معدلات الادخار بعهد السيسي في ضوء سياسات مالية واقتصادية اتبعت برفع معدلات الضرائب، وزيادة أسعار السلع والخدمات الحكومية.
جهاز التعبئة والإحصاء أعلن انخفاض معدل الفقر بمصر إلى 29.7% في 2019 /2020 مقابل 32.5% في 2017/2018 لكن لم يظهر تحسن على معدلات الادخار!
* * *
تتراكم المدخرات لدى الأفراد، عندما تتحسّن دخولهم، هنا يقومون بتوفير احتياجاتهم الأساسية وغيرها من الكماليات، ويوجهون ما تبقّى للادخار، والمصريون شأنهم شأن غيرهم من الشعوب، تتأثر أوضاعهم المالية بطبيعة النشاط الاقتصادي، ومدى عدالة توزيع الثروة على شرائح المجتمع المختلفة.
لكن يلاحظ أن مدخرات المصريين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في عهد السيسي تراجعت بشكل كبير، وفق بيانات التقرير المالي الشهري لوزارة المالية في يونيو 2021، فخلال الفترة 2014 - 2020، لم تتجاوز نسبة الادخار للناتج المحلي 10% في أحسن الأحوال، باستثناء عام واحد، هو العام المالي 2018/ 2019.
بينما كانت المدخرات في أقل معدلاتها في العام المالي 2016 /2017 حيث وصلت إلى معدل تاريخي في انخفاضها، بوصولها إلى 1.8% فقط، وذلك بسبب اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي، وما تبعه من إجراءات تقشفية، وانخفاض قيمة العملة، وفقدان المصريين نحو 50% من ثرواتهم، خاصة المدخرات المحتفظ بها في القطاع المصرفي. وفي عام 2019 /2020 بلغت المدخرات 6.2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي.
ولنا أن نتخيّل أن يصل معدل الادخار في بلد إلى أقل من 2%، لنعرف مدى معاناة الناس في ظل السياسات الاقتصادية التي تم تنفيذها، والتي كانت لها آثار اقتصادية واجتماعية شديدة السلبية، ولكن لم يلتفت النظام القائم إلى هذا الأمر، في ضوء السعي لنيل شهادة صندوق النقد الدولي، والحصول على القروض الخارجية.
ومن المفارقات الغريبة أن خيرت بركات، رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أعلن مؤخراً أنّ معدل الفقر في مصر انخفض إلى 29.7% في العام المالي 2019 /2020، مقابل 32.5% في عام 2017 /2018، في حين لم يظهر هذا التحسن بأي صورة من الصور على معدلات الادخار للمجتمع، فنسبة المدخرات للناتج المحلي في العامين واحدة، وهي 6.2%، وفق بيانات التقرير المالي الشهر لوزارة المالية عن يونيو 2021.
بل الأدهى، حسب البيانات، أن معدل الادخار كان في مصر في عام 2018 /2019 بحدود 10%، ثم تراجع في عام 2019/ 2020 إلى 6.2%، وهو ما يتناقض مع ادعاء تراجع معدلات الفقر.
ويمكن قراءة تراجع معدلات الادخار في عهد السيسي في ضوء السياسات المالية والاقتصادية، التي تم اتباعها، من خلال رفع معدلات الضرائب، وزيادة سعر العديد من السلع والخدمات الحكومية، مثل المياه والكهرباء والغاز الطبيعي، ومختلف أنواع الوقود، وكذلك الأوراق الثبوتية الحكومية.
ومن خلال نظرة سريعة للمقارنة بين معدلات الادخار بين عهدي السيسي ومبارك، في الفترة 2005 /2006 - 2009 /2010، نجد أن معدل الادخار كنسبة من الناتج الإجمالي، لم يقل عن 12.6% في عهد مبارك، وهو أعلى من أفضل سنوات عهد السيسي، وكان أفضل معدلات الادخار بعهد مبارك في عام 2005 /2006، حينما قفزت إلى معدل 17.1%.
ركزت حكومة السيسي، منذ اللحظة الأولى لتوليه السلطة، في عام 2014، على سياسة رفع معدلات الإيرادات الضريبية، فارتفعت حصيلتها من 305.9 مليارات جنيه إلى 983 مليار جنيه في موازنة 2021 /2022، وهو ما يعني زيادة في الإيرادات بنحو 678 مليار جنيه، عما كانت عليه الأوضاع في بداية تولّي السيسي السلطة، وهذه الزيادة تحققت من خلال فرض ضريبة القيمة المضافة، والزيادات المتتالية في مختلف أنواع ضريبة الدمغة، وبلا شك أن استنزاف دخول الأفراد من خلال الضرائب يعد خصماً من مدخرات الأفراد.
أيضاً اتجاه الحكومة لرفع الدعم عن معظم السلع والخدمات الحكومية بشكل كبير أدّى إلى رفع معدلات الاستهلاك الخاصة خلال الفترة 2014 - 2020، إذ ارتفع الاستهلاك من تريليوني جنيه، إلى 4.9 تريليونات جنيه.
ويعد ذلك عاملاً مهماً في تراجع مدخرات المصريين، وإذا كان البعض يرى أن رفع معدل الاستهلاك شيء إيجابي في النشاط الاقتصادي، فهو كذلك بشرط أن يكون المكوّن المحلي هو صلب المنتجات والخدمات المستهلكة في الاقتصاد المصري.
لكن يلاحظ أن الواردات المصرية من الخارج في تزايد مستمر، سواء فيما يتعلق بخطوط الإنتاج وقطع الغيار، أو وسائل الانتقال، أو مستلزمات الإنتاج، أو السلع النهائية، مما يجعل الاستهلاك في هذه الحالة عبئاً على ميزان المدفوعات، ويكرس للتبعية الاقتصادية للخارج.
وحسب البيانات الخاصة بميزان المدفوعات، نجد أن الواردات السلعية قفزت إلى 66.5 مليارات دولار في عام 2018/ 2019، بعد أن كانت بحدود 61.3 مليار دولار في عام 2014 /2015، وإن كانت هذه الواردات تراجعت في عام 2019/ 2020 إلى 62.8 مليار دولار، فإن السبب هو جائحة كورونا، ويتوقع أن تعود للارتفاع مرة أخرى بنهاية العام المالي 2021 /2022.
ثمة أمر آخر مهم، يتعلق بهيمنة القوات المسلحة على الاقتصاد المدني في مصر، عبر إنشاء الكيانات الاقتصادية في الأنشطة المختلفة، أو استحواذ وزارة الإنتاج الحربي على مجال التوريدات وتنفيذ المشروعات المختلفة داخل الوزارات والمؤسسات العامة، مما أزاح القطاع الخاص من مجال الاستفادة من ثمار النمو الاقتصادي.
والمعلوم أن البيانات الاقتصادية للقوات المسلحة غير متاحة بشكل يسمح بمعرفة مدى تأثيرها على دخول الأفراد، إلا أن ما يمكن استنتاجه هنا أن مؤسسات القطاع الخاص تعمل من الباطن مع مؤسسات الجيش، وبالتالي تتأثر إيراداتها، وتقلّ مدخرات الأفراد في النهاية نتيجة تأثر الدخول بهذا التدخل من قبل القوات المسلحة في مقدرات الاقتصاد المدني.
أيضاً بعض الإجراءات الإدارية التي اتخذتها الحكومة المصرية بشأن أمور عدة، منها المباني المقامة والمرخصة، والتي اعتبرت أنها مخالفة، تحمل بعض أصحابها في مناطق مختلفة دفع مبالغ تحت مسمى تصالح مع الحكومة بلغت مليارات الجنيهات، وهي بلا شك خصم من دخول الناس ومدخراتهم.
ففي نهاية سبتمبر حصلت الحكومة 8.6 مليارات جنيه، تحت بند المصالحات، وكان مقرراً أن يتم بمبدأ التصالح مع الحكومة حتى نهاية 2020.
في ضوء تراجع مدخرات المصريين بعهد السيسي، فالطبيعي أن تتجه الحكومة للتوسع في الاستدانة، فوصلت الديون العامة بمكونيها المحلي والخارجي إلى قيم غير مسبوقة (4.7 تريليونات جنيه دين محلي، و134.8 مليار دولار دين خارجي)، ولن تتوقف هذه الدوامة للديون في مصر، طالما أن هذا الخلل قائم في تراكم المدخرات.
وحسب بيانات التقرير المالي لوزارة المالي في يونيو 2021، بلغت نسبة الاستثمار من الناتج المحلي الإجمالي في عام 13.8%، بينما نسبة الادخار في نفس العام 6.2%، والفرق بينهما يعد فجوة تمويلية بنسبة 7.6%، تمولها الحكومة عبر الديون.
واستكمالاً لمعرفة باقي حلقات الأزمة التمويلية في مصر، تستمر دوامة الديون، فتزيد الفوائد بمخصصات الإنفاق العام، فتتجه الدولة للحصول على المزيد من الضرائب، ورفع رسوم السلع والخدمات الحكومية، فتنخفض مدخرات الأفراد، فيزيد معدل الفقر، فهل يصلح بعد ذلك الحديث عن ارتفاع معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي؟
إن تدني معدلات الادخار من شأنه أن يرسل بإشارة خطر للحكومة، بأن سياساتها الاقتصادية غير إيجابية، وأن المجتمع لا يجد ثمرة لجهده المبذول في النشاط الاقتصادي، فارتفاع معدلات الادخار يعد أمراً إيجابياً لكل من الأفراد والحكومة، فالأفراد يشعرون بالأمان، والحكومة تجد مصدراً حقيقياً لتمويل استثماراتها.