عقب ثورة 25 يناير 2011، استضاف اتحاد الصناعات د مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا –لم يكن في السلطة حينذاك- للاستفادة من خبرته للنهوض بالتنمية في مصر، وكان مؤتمرًا حاشدًا في قاعدة المؤتمرات الكبرى بمدينة نصر.
كان الرجل واضحًا، حيث وجه نصائحه بالتركيز، على أمرين مهمين، هما عدم الاستماع إلى وصايا صندوق النقد الدولي بالاعتماد على الديون لتمويل التنمية، وضرورة أن تتوجه مصر للتصنيع.
وهو أمر اتبعه مهاتير إبان أزمة دول جنوب شرق آسيا في عام 1997، حيث رفض أجندة الصندوق والبنك الدوليين، وركز على الاصلاح الداخلي، من خلال القضاء على الفساد في الجهاز المصرفي، والزام المصدرين الماليزيين بتوريد كامل حصيلة الصادرات من النقد الأجنبي للبنوك المحلية.
ولكن للأسف لم يتم الأخذ بنصائح الرجل، فذهب المجلس العسكري الذي كان يدير المرحلة الإنتقالية الأولى بعد الثورة، ليبدد نحو 22 مليار دولار من احتياطي النقد الأجنبي، بسبب سياسات اقتصادية فاشلة، عكس ما أوصى به مهاتير صاحب التجربة الناجحة للتنمية في ماليزيا.
وحينما عاد العسكر بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013، لإدارة السلطة في مصر، تم توجيه بوصلة الاقتصاد المصري صوب تعليمات الصندوق والبنك الدوليين، وشهد الدين العام قفزت كبيرة، ليصل الدين العام الخارجي إلى نحو 110 مليار دولار تقريبًا في سبتمبر 2019، بعد أن كان 34 مليار دولار في عام 2011. ويرتفع كذلك الدين الداخلي إلى 4.2 تريليون جنيه، بعد أن كان أقل من تريليون جنيه في عام 2011.
ومن عجب أن وسائل الإعلام المصرية، اعتبرت زيادة الدين العام، من انجازات حكومة السيسي، وبخاصة ما تم في الديون الخارجية، فعلى مدار الأيام الماضية، صدرت وسائل الإعلام مجيئ مصر في المرتبة الأولي لمقترضي بنك إعادة الإعمار الأوروبي، على أنها دليل نجاعة السياسات الاقتصادية، ولم يبين مسئولو هذا الإعلام الموجه، بأن بنك إعادة الإعمار الأوروبي، يعمل في إطار أجندة الصندوق والبنك الدوليين.
فضلَا عن أن البنك أعلن عقب ثورات الربيع العربي، أنه سيقدم حزمة من القروض لدول الربيع العربي بالإضافة إلى الأردن، وأن نصيب مصر من هذه القروض سيكون بنحو 5 مليارات دولار، وها هي مصر تصل إلى الحد الأقصى لحصتها للأسف، حيث بلغت قروض بنك إعادة الإعمار لمصر نحو 5.2 مليار دولار مطلع 2020.
كثيرًا ما يردد المسئولون المصريون، بأن مصر تحصل على ديونها الخارجية نتيجة لتحسن وضعها الاقتصادي، وأن برنامج مصر مع صندوق النقد الدولي، حقق نجاحًا مكنها من ثقة الممولين، والحقيقة على خلاف ذلك، فما من تقرير يصدر عن صندوق النقد الدولي، أو البنك الدولي، أو وكالات التصنيف الدولية، إلا ويؤكد خطورة وضع الدين العام في مصر.
الأمر الثاني أنه ما من أحد من الاقتصاديين، وبخاصة المعنيين بقضايا التنمية، إلا ويؤكد على ضرورة أن يكون التمويل بالديون في حدود، وأن يذهب لمشروعات إنتاجية، وليس تمويل النفقات الجارية وعجز الموازنة كما هو الحال في مصر.
وتعكس بيانات وزارة المالية المصرية حجم أزمة الديون في مصر، فقد ارتفعت الالتزامات السنوية للدين العام (أقساط + فوائد) من 493 مليار جنيه في عام 2015/2016 إلى 944 مليار جنيه في عام 2019/2020، لذلك ستظل أزمة الموازنة العامة في مصر بلا حل، ما لم يتم الالتزام ببرنامج يعمل على سداد الديون وتخفيض قيمتها إلى حدود ما دون نسبة 60% من الناتج المحلي الإجمالي.
أما الأمر الجلل الذي يتم التغاضي عنه في قضية الديون المصرية، هو أن هذه الديون لا تعمل على بناء صناعة مصرية، وأنها في الغالب تصب في صالح الصناعات الأوروبية، لتوريد الماكينات وخطوط الإنتاج، ومنها ما يتعلق بقروض البنك الأوروبي لإعادة الإعمار، فقرض شركة السويدي مثلًا من أجل شراء ماكينات لأداء أفضل في صناعة أسلاك الكهرباء، ومثال آخر فيما يتعلق بشراء جرارات لصالح الهيئة العامة للسكة الحديد، فمصر مجرد سوق استهلاكي، لا تنتج ولا تصنع شيئا بهذه القروض.
في ظل حكومة السيسي، هناك جانب مظلم في كافة المعاملات الخارجية، سواء فيما يتعلق بالتجارة أو النفط والغاز أو الديون، بينما الشفافية تقتضي أن يعلم الشعب طبيعة هذه العقود، وما هي الالتزامات التي سيتحملها الشعب، حرمانًا من قوته أو عبئًا على دافعي الضرائب.
إن الاتفاقيات المنشورة في معظم وسائل الإعلام المصرية عن القروض التي أبرمت مع بنك إعادة الإعمار الأوروبي، أو بنك الاستثمار الأوروبي، لا تتضمن سعر الفائدة الذي سيدفع على هذه القروض، وليس سرًا أن كلا البنكين، ليس مؤسسة خيرية، أو مصدرًا لتقديم المساعدات، بل مؤسسات استثمارية تجارية.
وبجوار المطالبة بالإفصاح عن سعر الفائدة، هناك أمر مهم، وهو الضمانات التي تقدمها مصر في عقود قروضها الخارجية، فمصر عندما اقترضت 2 مليار دولار في عام 2005، من سوق السندالت الدولية، كانت الضمانة صادرات مصر من النفط، والسؤال الآن، ما هي الضمانات المقدمة لنحو 70 مليار دولار تقريبًا تم اقتراضها بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013؟
عندما قدم مهاتير محمد نصائحه لمصر في عام 2011، كانت مصر أمام خيار صعب، وهو خيار حقيقي للتنمية، يتطلب حصر الموارد المتاحة، وترتيب أولويات الاحتياجات، والاستعداد للقضاء على الفساد، وبناء قادة إنتاجية حقيقية، تمكن مصر من بناء اقتصاد يتمتع بقيمة مضافة عالية.
أما ما قرره العسكر، فكان مسار الندم، حيث الاختيار الأسهل عبر الاقتراض، والبعد عن متاعب الصناعة وتوطين التكنولوجيا، وستكون العاقبة، هي تركة ثقيلة للأجيال القادمة من الديون، والتبعية للخارج.