راهنت الحكومات المصرية المتعاقبة منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، على أداء القطاع الخاص، وقدمت له المزايا بسخاء، على أمل أن يكون قائدًا للتنمية. وحصل القطاع على قروض البنوك، وأراضي الدولة، وإعفاءات ضريبية، ومارس المضاربات بأشكالها المختلفة في البورصة والعقارات والنقد الأجنبي.
لكن كانت النتيجة أن مصر لم تجد دورا للقطاع الخاص في الحد من أزماتها الاقتصادية والتجارية المتعددة والمتعاقبة، فلا هو أقام صناعة منافسة في السوق المحلي أو الأجنبي، ولا حرّك الصادرات السلعية والخدمية، لإحداث طفرة تقوّى المركز التجاري الخارجي للبلاد، ولا سعى لاستيعاب القوى العاملة التي تعاني من بطالة مزمنة.
كان المعنيون بالتنمية في المجتمع المصري يرفضون توجه الدولة في عمل المنتجعات السياحية والمساكن الفاخرة، أو ما يعرف بالتجمعات السكنية للأغنياء (الكومباوند) لما يترتب عليه من أضرار اجتماعية، وارتباط الظاهرة بتغريب المجتمع، وتوسيع الفجوة بين شرائح المجتمع المختلفة، وترسيخ ظاهرة الفوارق الاجتماعية.
لكن مؤخرًا أعلنت إحدى شركات المقاولات الكبرى في مصر عن طرحها لمشروع عمل مقابر باسم "البستان" بمساحة 40 مترا للمقبرة، وسعر يزيد عن 1.5 مليون جنيه مصري (30 ألف دولار بسعر صرف السوق السوداء "50 جنيها للدولار")، وأن منطقة المقابر ستكون مزودة بجراج ومسجد وقاعة مناسبات، وكذلك خدمات الإنترنت، ومساحات خضراء.
وتأتي هذه الخطوة لتعكس مجموعة من الاعتراضات الاقتصادية لطبيعة حالة الفقر التي يعيشها المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى غياب مشروع التنمية، الذي يفترض أن يعيد تخصيص الموارد العامة والخاصة لسد الاحتياجات الضرورية للمجتمع ثم الكماليات، ثم التحسينات.
فكون القطاع الخاص يمتلك موارد معينة، وكذلك شريحة من الطبقة المخملية، لا يعني ذلك أن تخصَص لهم أراضي الدولة بتلك المساحات لتنفيذ مشروعات استفزازية، بدءًا من المنتجعات والشاليهات، وانتهاء بالمقابر.
والخطأ في الإعلان عن مشروع الشركة عن المقابر الفاخرة تُسأل عنه الحكومة أولًا، فالسوق الحر، وإعطاء مساحات أكبر للقطاع الخاص، لا يعني أن يفعل القطاع ما يشاء، فقديمًا كان من يُدرّسون مادة النظم الاقتصادية المقارنة يعطون مثالًا لسلوك التاجر الرأسمالي، وكنا نظنه مثالًا تجريديًا لا يوجد في الواقع.
المثال كان يقول، إن التاجر الرأسمالي لو جاءه رجل فقير لديه طفل مريض يحتاج إلى لتر من اللبن ولا يملك ثمنه بالكامل، فهذا التاجر لن يعطيه اللبن، بينما لو جاءه رجل ثري يشتري لتر اللبن لكلبه، ويملك بالطبع ثمن اللبن، فسوف يعطيه التاجر اللبن. لكن على ما يبدو فإن شركة المقاولات صاحبة إعلان المقابر الفاخرة، تعكس واقع التاجر الرأسمالي، الذي يتجرد من إنسانيته، ولا يكون همه إلا الربح.
هل نسيت هذه الشركة ومن قبلها الحكومة المصرية، مَن لم يتوفر لهم سكن اقتصادي، أو سكن لفئة محدودي الدخل؟، وهل نسوا من يسكنون المراكب والدكاكين، والعائلات التي تسكن في سكن مشترك، أو مساكن الإيواء.
إن كان لدى شركات القطاع الخاص فائض مالي، وأحسب أنه عير موجود، فلتتوجه به إلى قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات التعليمية والصحية والتكنولوجية، لتحسين أداء الناتج المحلي الإجمالي، وتخفيف العبء على ميزان المدفوعات الذي يئنّ من مشكلات مزمنة، تجعل مصر تعاني بشكل كبير في علاقاتها التجارية والمالية مع الخارج.
تحولت الحكومة المصرية، خلال السنوات العشر الماضية، إلى تاجر أراض، وتكاد تكون حصرت سوق العقار والتشييد في شركات القوات المسلحة، فضلَا عن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، الذي قدّم أسعاراً خيالية، لا تناسب شريحة كبيرة من أفراد المجتمع
فالأسعار المليونية لا تتناسب إطلاقًا مع دخول شريحة كبيرة من السكان، خاصة بعد تراجع قيمة الجنيه، وزيادة الفجوة بين الأجور والأسعار. فطبيعة المرحلة تحتم على الحكومة التوسع في توفير السكن للشرائح الدنيا، من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
أما مزاحمة الحكومة للقطاع الخاص وطرح مساكن فاخرة، وأسعار ليست في استطاعة شريحة كبيرة من السكان، فهي سياسة مغلوطة، وتحتاج إلى مراجعة. وفي حالَ إقدام وإقرار الحكومة لمشروع شركة الإسكان للمقابر الفاخرة، فإنها بذلك تتناسى دورها تمامًا، وتهمل مسؤوليتها السياسية والاجتماعية أمام المجتمع، فملف المقابر بشكل إجمالي متروك في كثير من الدول إلى المحليات.
وفي التجربة التركية مثلًا، لا تتحمل أسرة المتوفي شيئاً، فالمحليات تقوم بنقل المتوفي إلى المغسلة، وتقوم بعمليات الغسل والدفن، وتوفير قبر على حسابها، من دون أن تتحمل الأسرة شيئا، فضلًا عن توفير سيارة تُقل أسرة المتوفي إلى المقابر.
الكتاب الإحصائي السنوي لعام 2022، تضمّن البيانات الخاصة بتعداد عام 2017، والتي تبيّن أن عدد من هم فوق 18 عامًا ولم يتزوجوا، بلغ 13.6 مليون فرد، ويمثلون 24% من هذه الفئة العمرية.
ويُعد تدبير السكان لتكوين أسرة جديدة، أحد أهم أسباب تأخير الزواج، خاصة لدى الفئة العمرية فوق 18 عامًا. كما أن سلّم الرواتب لحديث التخرج أو الراغبين في الزواج لا يساعد بأي حال من الأحوال بتدبير مسكن لأسرة جديدة، سواء من خلال نظام الإيجار أو التمليك.
وبالرجوع إلى بيانات تعداد السكان لعام 2017، وجد أن عدد الأسر التي تعيش في سكن مشترك يبلغ 603.4 ألف أسرة، أما من يقيمون في دكان فعددهم 21.6 ألفا، ومن يعيشون في خيمة أو عشّة أو كشك أو عربية ثابتة فعددهم 14.7 ألفا، ومن يسكنون المقابر 660 أسرة.
والمتابع للشأن المصري على الصعيد الاقتصادي، يجد أن الأمور الاقتصادية والاجتماعية زادت، سواء عما كانت عليه في عام 2017، وبلا شك أن من أهم مظاهر تراجع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سوء أوضاع السكن للأفراد والأسر.
من خلال ما عُرض من بيانات تخص عدد غير المتزوجين ممن هم فوق سن 18 عامًا، أو وضع السكن لآلاف الأسر المصرية، نجد أنه كان من الواجب ألا تخرج مثل هذه المشروعات الاستفزازية، والتي تعبر عن غياب قضية العدالة الاجتماعية لدى الحكومة.
إن طريقة التفكير في مشروع المقابر الفاخرة، هو واحد من وسائل الربح السريع، حتى وإن تم تمويل مثل هذا المشروع بأي وسيلة من وسائل التمويل، فضلًا عن أن إمكانيات المجتمع وموارده، يجب أن توجه بشكل صحح حسب سلّم الأولويات. فهل أصبح لدى الأسر، حتى لو كانت ثرية، أن تفكير في تدبير مقبرة فاخرة؟
على كلٍ من الواجب أن تصنع الحكومة مع المجتمع المدني وعي الأفراد تجاه التوظيف الصحيح لصالح المجتمع. ولا يليق بالحكومة في ظل هذه الأزمة الاقتصادية التي تمر بها، ولا يلوح في الأفق الخروج منها في الأجلين القصير والمتوسط، أن تتجه إلى المقابر العامة، لا المقابر الفاخرة، وأن تحسن توظيف أي مورد مالي.
فخروج مشروع المقابر الفاخرة الذي أعلن عنه، لهذه الشركة أو لغيرها، هو كارثة بكل المقاييس، فعادة ستكون هذه الشركات جاهزة بمشروعات تسويقية تشترك فيها البنوك، لتمويل هذه المقابر بالقسط، وعلى سنوات طويلة، وهو ما يعد تبديد للموارد المالية المحدودة، ففي الوقت الذي تتوقف فيه البنوك عن تمويل المشروعات العقارية، فهل ستقدم البنوك التمويل للأثرياء لتملّك مقابر فاخرة