تأثيرات قرار أرامكو
دلالات التحول للنفط العراقي
لم يكن قرار شركة أرامكو السعودية بوقف الإمدادات النفطية عن مصر في أكتوبر/تشرين الأول 2016 قرارا عاديا من حيث تأثيراته الاقتصادية على مصر، فقد أربك الحسابات المالية والاقتصادية لدى الحكومة المصرية.
فبعد أن كانت إمدادات أرامكو لمصر مخصصة لتغطية فترة خمس سنوات، وبواقع نحو 4.6 مليارات دولار سنويا، بتسهيلات ائتمانية متوسطة وطويلة الأجل، اضطرت الحكومة المصرية بعد قرار وقف الإمدادات لتغطية احتياجاتها من مصادر أخرى لم يعلن عنها في حينها.
ولكن الأيام القليلة الماضية كشفت عن اتفاق بين مصر والعراق، تحصل مصر بموجبه على مليون برميل من النفط شهريا، وذلك وفق تصريحات السفير العراقي في القاهرة حبيب الصدر لوسائل الإعلام. ومن المنتظر أن تبدأ الإمدادات في مارس/آذار 2017، وأن يكون هذا بمثابة اتفاق إستراتيجي تدخل بموجبه كل من العراق ومصر والأردن في إنشاء خط للإمدادات النفطية والغاز من البصرة إلى مصر عبر الأردن.
بالاطلاع على بيانات نشرة "المعلوماتية" لـ فبراير/شباط 2017 التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يتبين لنا أن قرار أرامكو أثر على معدلات استهلاك النفط والغاز في مصر.
ففي حين كانت معدلات استهلاك مصر من الغاز والنفط في سبتمبر/أيلول 2016 نحو 6.9 ملايين طن، انخفضت في أكتوبر/تشرين الأول إلى 6.6 ملايين طن، ثم تراجعت أكثر في نوفمبر/تشرين الثاني حيث بلغت 6.1 ملايين طن، ليمثل مقدار التراجع في الاستهلاك بين سبتمبر/أيلول ونوفمبر/تشرين الثاني نحو 754 ألف طن، بنسبة تصل إلى 11.3%.
غير أن معدلات استهلاك النفط والغاز تحسنت في ديسمبر/كانون الأول 2016 عما كانت عليه في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، حيث وصلت إلى 6.4 ملايين طن. ومع هذا التحسن، فإنها لم تصل إلى معدلات سبتمبر/أيلول من العام نفسه، ليظهر بذلك الأثر السلبي لقرار أرامكو على الاقتصاد المصري.
"
تعرض الاقتصاد المصري لحالة من عدم الاستقرار في إمدادات النفط والغاز تؤدي إلى انعكاسات سلبية فيما يتعلق بمعدلات النمو، وكذلك عدم تحقيق النتائج المرجوة من تطبيق إجراءات الحكومة ببرنامجها الخاص بالإصلاح الاقتصادي
"
فلا شك أن تراجع معدلات استهلاك النفط والغاز بمصر بنحو 10% في المتوسط نتيجة قرار أرامكو بوقف الإمدادات النفطية كان له دور في تراجع معدلات الإنتاج بقطاعات الصناعة والزراعة، وباقي مجالات الإنتاج بمصر، حيث تحرص الحكومة منذ الانقلاب العسكري على إمداد الاستهلاك المنزلي والتجاري بالنفط والغاز على حساب قطاع الصناعة، وهو ما دفع غرفة الصناعات المعدنية بالتقدم غير مرة بشكواها لمجلس الوزراء بسبب نقص إمداد مصانع الحديد بالغاز الطبيعي.
وتعرض الاقتصاد في هذا التوقيت لحالة من عدم الاستقرار في إمدادات النفط والغاز تؤدي إلى انعكاسات سلبية فيما يتعلق بمعدلات النمو، وكذلك عدم تحقيق النتائج المرجوة من تطبيق إجراءات الحكومة ببرنامجها الخاص بالإصلاح الاقتصادي، حيث يؤدي توقف الإنتاج بقطاع الصناعة وبعض القطاعات الأخرى إلى زيادة الاستيراد للسلع تامة الصنع، وهو أمر ترغب الحكومة في التخفيف منه لتقليل الطلب على الدولار، من أجل الوصول إلى حالة من الاستقرار في سعر الصرف.
في إطار بحث مصر عن مصادر للنفط والغاز لتعويض تراجع معدلات إنتاجها خلال السنوات الماضية، وجدت شركات مصرية للعمل في مجال إنتاج النفط والغاز بالعراق. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد إلى دخول الهيئة العامة للبترول المصرية بحصة شراكة في أحد حقول النفط بجنوب العراق.
وفي إطار هذه الصفقة، فإن مصر تعرض على العراق الاستفادة من مصافي تكرير النفط والتي لا تعمل بكامل طاقتها نظرا لتراجع حصة مصر من الإنتاج النفطي، وبذلك تحصل العراق على احتياجاتها من مشتقات النفط بعد تكرير الخام في المصافي المصرية.
ولم يكن خفيا أن قرار أرامكو بوقف إمدادات النفط والغاز لمصر في أكتوبر/تشرين الأول 2016 قد أتى نتيجة للتداعيات السلبية للعلاقات السياسية بين البلدين. ومن هنا توجه وزير النفط المصري عقب وقوع الأزمة مع شركة أرامكو إلى العراق، لتكون الثمرة هي الاتفاق الذي أعلن عنه مؤخرا بمد مصر بمليون برميل نفط شهريا قابلة للزيادة. ونرى أن الاتفاق بين القاهرة وبغداد يعكس الدلالات الآتية:
– أن إمكانيات مصر المحدودة من إنتاج النفط والغاز، والتي تقدر وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بنحو 5.5 ملايين طن في المتوسط شهريا غير كافية لاحتياجات الاستهلاك المحلي، وسوف تمثل فجوة الطاقة ورقة ضغط على مسارات مصر الاقتصادية والسياسية.
"
ثمة علاقات اقتصادية غير معلنة وغير مباشرة بين مصر وإيران عبر العراق للرد على قرار أرامكو بقطع إمداداتها النفطية، وهو ما يعني أن خريطة العلاقات الاقتصادية بالمنطقة ممهدة لتغيرات حقيقية خلال الفترة القادمة
"
ومما يظهر الضغوط التي تمثلها ورقة الطاقة على الأوضاع الاقتصادية على مصر، تصريح محافظ البنك المركزي بضرورة سداد البلاد لنحو 1.5 مليار دولار من ديونها لشركات النفط الأجنبية خلال عام 2017، وهو ما يمثل عبئا جديدا على احتياطيات النقد الأجنبي، أو يضطرها لمزيد من القروض الخارجية.
ويمثل ما ستسدده القاهرة من التزامات تجاه شركات النفط الأجنبية 41.6% من إجمالي مستحقاتها البالغة 3.6 مليارات دولار، وهي أزمة مستمرة منذ ما يزيد على ست سنوات، وكلما قامت مصر بسداد جزء من هذه الالتزامات تراكمت عليها ديون أخرى لتعود المديونية إلى ما كانت عليه.
– إذا ما امتد الاتفاق المصري العراقي بالفعل لإنشاء خط أنابيب لإمداد النفط والغاز من البصرة لمصر عبر الأردن، فإن ذلك يؤدي إلى شكوك كبيرة بشأن ما أعلن عن الاكتشافات الخاصة بمصر عن الغاز الطبيعي بحقل شمال الدلتا الذي تحظى به الشركة البريطانية للغاز، أو حقل "ظهر" الذي تحظى به شركة إيني الإيطالية. فوفق ما أعلن من قبل مسؤولين مصريين، فإن القاهرة ستجني ثمار هذه الاكتشافات عام 2018، وهي فترة قريبة لا تجعلها تتورط في التزامات مادية عالية التكاليف بإنشاء خط لنقل النفط والغاز من العراق لمصر.
– ثمة علاقات اقتصادية غير معلنة وغير مباشرة تتم بين مصر وإيران عبر العراق، للرد على قرار أرامكو السعودية بقطع إمداداتها النفطية، وهو ما يعني أن خريطة العلاقات الاقتصادية بالمنطقة ممهدة لتغيرات حقيقية خلال الفترة القادمة. فقرار بغداد يأتي في إطار إحكام إيران سيطرتها على مقدرات الأمور بالعراق، ويتوقع أن تنتقل العلاقات الاقتصادية المصرية الإيرانية لشكل مباشر خلال الفترة القادمة، وسيتوقف ذلك على درجة التئام أو تدهور العلاقات المصرية السعودية.
– يتوقع ألا يكون إمداد بغداد للقاهرة بالنفط هو الصورة الوحيدة لتوطيد العلاقات المصرية الإيرانية، بل يتوقع أن تشمل هذه العلاقات خلال الفترة القادمة إعطاء مصر حصة في عملية إعادة إعمار العراق، وبخاصة بعد أخبار تقدم القوات العراقية الحكومية على تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل ومناطق أخرى.
وقد يكون ذلك ثمنا لقرار شركات التعمير والإسكان المصرية التي أعلنت عن انسحابها من السوق السعودي خلال الأيام القليلة الماضية، ردا على قرار أرامكو بقطع إمداداتها النفطية، وإن كنا نرى أن قرار الشركات المصرية قد يرجع لأسباب اقتصادية تتعلق بحالة الركود الكبيرة التي يمر بها قطاع التشييد والبناء في السعودية.
– أن الصراع السعودي الإيراني تتعدد مجالاته ومسارحه، وأن المقدرات الاقتصادية لدول المنطقة لا تؤهلها لتبني مواقف تعتمد على المبادئ، وأن مصالحها الاقتصادية سوف تحدد مواقفها من الصراع السعودي الإيراني، وهو مؤشر شديد الخطورة على مستقبل المنطقة السياسي والاقتصادي، ويؤدي لجعل المنطقة تعيش حالة من التوتر لفترة زمنية تتراوح بين المتوسطة وطويلة الأجل