– تطويع الأرقام
– خسائر أكبر
– إلغاء الدعم
– الجزر المعزولة
توضع السياسات الاقتصادية، وتكون لها مجموعة من الأهداف، للتعامل مع المشكلات الاقتصادية القائمة من أجل التغلب عليها في الأجلين المتوسط والطويل، أو التخفيف من حدتها في الأجل القصير، وقد يكون الهدف من هذه السياسات تعظيم العائد الاقتصادي والاجتماعي من التعامل مع الموارد والاستخدامات الاقتصادية المختلفة.
ولكن عندما تصبح المشكلات الاقتصادية هي المؤثر في السياسة الاقتصادية، فمعنى هذا أن المشكلات الاقتصادية القائمة قد استعصت على الحل، وأن دور السياسات الاقتصادية ليس أكثر من مجرد التعايش مع هذه المشكلات، ويجعل ذلك السياسة الاقتصادية في طرف المتغير التابع وليس المتغير المستقل في معادلة علاقة السياسة الاقتصادية بالمشكلات القائمة أو المحتملة.
ويبدو أن مجريات الأوضاع في مصر تؤشر على خلل في إدارة السياسة الاقتصادية، فقد خفض البنك المركزي أسعار الفائدة بواقع 0.5% على الإيداع والاقتراض يوم 15 يناير/كانون الثاني الحالي ليصبح سعر الفائدة على الإيداع 8.75%، وعلى الإقراض 9.75%.
وعلى الرغم من أن البيان المنشور على موقع البنك المركزي قد أظهر أن معدلات التضخم على أساس سنوي ما زالت عند مستوى 9.09% في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، و10.3% في ديسمبر/كانون الأول 2014، فإنه يعود ليظهر معدلات للتضخم أقل من هذه المعدلات بزعم أن المعدلات المعدة من قبل البنك المركزي على أساس سنوي هي 7.81% في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي و7.69% في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
"
إذا كانت الأرقام التي قدرها البنك المركزي المصري عن نسبة التضخم صحيحة، وهي مبعثه على قرار خفض سعر الفائدة، فلماذا ذكر في البيان نفسه وقبل تقديراته بسطور أرقاما تعكس معدلات أعلى عن التضخم في مصر!
"
وهو ما لا يدع مجالا للشك لدى الباحث من أنه يتم تطويع الأرقام لتبرير سياسات وقرارات معينة. فإذا كانت الأرقام التي قدرها المركزي المصري عن نسبة التضخم صحيحة، وهي مبعثه على قرار خفض سعر الفائدة، فلماذا ذكر في البيان نفسه وقبل تقديراته بسطور أرقاما تعكس معدلات أعلى عن التضخم في مصر؟!
إن ذكر الفارق بين التقديرين بشأن معدلات التضخم في مصر كان يوجب على البنك المركزي إيضاح سبب الاختلاف في التقديرين، فتضارب الأرقام على هذا النحو يضر بمصر، خاصة في المرحلة المقبلة، حيث تعتزم الحكومة عقد مؤتمرها الاستثماري في مارس/آذار المقبل، فالمستثمر المنتظر سيكون لديه تقديران لمعدل التضخم، ولا يعرف سبب الاختلاف بينهما.
والحقيقة أن الضغوط الناتجة عن تفاقم الدين العام المحلي الذي يناهز تريليوني جنيه (279 مليار دولار) تفرض على صانع السياسة المالية والنقدية أن يخفض سعر الاقتراض من الجهاز المصرفي من أجل تخفيض تكلفة الدين المحلي، ولكن الأمور الاقتصادية لا تقاس ولا ينظر إليها في ضوء متغير واحد.
ومما يؤكد أن الدافع وراء خفض سعر الفائدة هو محاولة تقليل تكلفة الدين العام أن البيانات المنشورة في موقع وزارة المالية المصرية عن عجز الموازنة في فترة الشهور الخمسة الأولى عن العام المالي 2014-2015 بلغ 108 مليارات جنيه (15 مليار دولار) مقابل 66 مليار جنيه (9.2 مليارات دولار) عن الفترة المقابلة من العام المالي الماضي، وبذلك تكون الزيادة في قيمة العجز المتحقق خلال فترتي المقارنة هي 42 مليار جنيه (5.8 مليارات دولار).
وإذا سلمنا بأن خفض سعر الفائدة أتى بسبب تراجع معدلات التضخم -وهذا ادعاء يكذبه الواقع- فإن الأضرار المترتبة عليه كثيرة، وسوف يكون ثمنها أكبر بكثير من تكلفة فارق سعر الفائدة على الاقتراض الحكومي، فخفض سعر الفائدة ظهر مردوده بشكل سريع في السوق السوداء للدولار بمصر، إذ وصل سعر الدولار نحو 7.85 جنيهات، في الوقت الذي تعاني فيه مصر من أزمة حقيقية بموارد النقد الأجنبي.
كما سيدفع انخفاض سعر الفائدة على الإيداع بالبنوك المصري إلى اتجاه المدخرين للمضاربة في البورصة وعلى سعر العملات بالسوق السواء، ومن جهة أخرى يدفع نحو التوجه للاقتصاد غير المنظم (اقتصاد الظل)، بغية الحصول على عائد أفضل على مدخراتهم، وفي هذه الحالات يضيع على الدولة حقها في الضرائب والرسوم التي كان ينبغي أن تحصل عليها، سواء تعلق الأمر بالمضاربة أو الاقتصاد غير الرسمي.
"
بدلاً من أن تتبنى السياسة الاقتصادية للحكومة تخفيض الدين العام ككل، نجد أن قضية الدين أجبرت الحكومة على التلاعب بسعر الفائدة صعوداً وهبوطًاً حسب المقتضيات السياسية الخاطئة التي تعمل بها الحكومات منذ فترة
"
والعبرة هنا أنه بدلاً من أن تتبنى السياسة الاقتصادية للحكومة تخفيض الدين العام ككل، ووضع برنامج للوصول به للمعدلات الآمنة، نجد أن قضية الدين أجبرت الحكومة على التلاعب بسعر الفائدة صعوداً وهبوطًاً حسب المقتضيات السياسية الخاطئة التي تعمل بها الحكومات المصرية منذ فترة، وهي استبدال الديون الجديدة بأخرى قديمة.
القضية الثانية التي تدلل على أن المشكلات الاقتصادية بمصر هي التي أصبحت تسير السياسات الاقتصادية، ما أعلن منذ أيام من قبل وزير الزراعة المصري من إلغاء الدعم المقدم لمزارعي القطن، في حين أن دعم القطن على مدار السنوات الماضية لم يتعد مائتي مليون جنيه (28 مليون دولار) سنوياً.
وكان القرار المذكور مندرجا ضمن السياسة الاقتصادية للحكومة الحالية، والرامي إلى التخلص من مخصصات الدعم على مدار السنوات القليلة القادمة، سواء في مجال الطاقة أو الغذاء أو غيرهما من المجالات، واتضح ذلك من خلال موازنة العام المالي الحالي 2014-2015، حيث قلصت مخصصات الدعم بقيمة 51 مليار جنيه (7.1 مليارات دولار).
وستكون النتيجة المتوقعة لهذه السياسة تراجع مساحات زراعة القطن بمصر خلال المواسم القادمة بشكل كبير، مما سيجعل المغازل العامة والخاصة تعتمد على الاستيراد، وسيكون فارق العملة الخاص بفاتورة استيراد الغزل يفوق كثيراً مبلغ دعم مزارعي القطن.
إن القضية ليست دفاعاً عن سياسة الدعم، ولكن المشكلة هي أن السياسة الاقتصادية بمصر أصبحت مجرد رد فعل على التداعيات السلبية للمشكلات الاقتصادية التي تجذرت، وبدلًا من وجود إستراتيجية للحل تربط بين هذه المشكلات وتضع حلولا لها، نجد أن سياسات الحكومة تأتي في إطار ما تعرف بـ"الجزر المنعزلة".
فقرار إلغاء دعم مزارعي القطن لتسويق منتجهم اتخذ بمعزل عن اهتمامات وزير التجارة والصناعة بضرورة توفير القطن للمغازل المحلية لكي لا تضطر للاستيراد بكميات أكبر مما هي عليه الآن، وأيضاً ما سيترتب على الاستيراد من عجز في الميزان التجاري، وكذلك دون التشاور مع السلطات النقدية لما سيترتب على هذا القرار من احتياجات للنقد الأجنبي.
ومنذ الأيام الأولى للانقلاب العسكري بمصر في يوليو/تموز 2013، لوحظ أن هناك ما يمكن تسميته بتوجيه السياسات الاقتصادية، وفرق بين توجيه السياسات الاقتصادية والتنسيق فيما بينها، فقد نتجت عن توجيه السياسات أضرار بالغة بالمُودعين، وخاصة الصغار منهم، في ظل ارتفاع معدلات التضخم، وتعمد البنك المركزي تحفيض سعر الفائدة غير مرة على مدار عامين.
ولم تفلح محاولات البنك المركزي عبر آليات السياسة النقدية في ترويض سعر الصرف، أو استهداف معدل محدد للتضخم، فكلاهما تتكالب عليه المتغيرات الداخلية والخارجية، بما جعلهما مصدر تهديد لقرارات الاستثمار بمصر، سواء من قبل المستثمرين المحليين أو الأجانب