فهذا الترتيب لا يعني بحال من الأحوال أن الاقتصاد المصري يأتي من حيث قيمة الناتج المحلي بعد الصين والهند، أو أن هناك أي وجهة نظر للمقاربة بين الاقتصاديات الثلاث.
احتفى مجلس الوزراء المصري، ومن خلفه جهاز الإعلام المصري والعربي المؤيد للانقلاب العسكري بمصر، بنتائج ترتيب مجلة الايكونوميست عن معدلات النمو الاقتصادي بالعالم خلال الربع الأول من عام 2019، حيث حلت مصر بالمرتبة الثالثة بمعدل نمو 5.6% خلال الفترة، وقد سبق مصر في هذا الترتيب الصين بمعدل نمو 6.4% والهند بمعدل نمو 5.8%.
وذهبت تحليلات بعض الاقتصاديين المصريين إلى تفسيرات وتوقعات لنتائج هذا الترتيب، من كونه سوف يدر على مصر استثمارات أجنبية، وأنه يعني سلامة الإجراءات الاقتصادية المتبعة في برنامج ما يسمى بـ “الاصلاح الاقتصادي” الذي أبرم مع صندوق النقد في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
وثمة مجموعة من الحقائق تبين أن هذا الترتيب ليس أكثر من ترتيب رقمي، لا يعكس قوة أداء اقتصادي، ولابد من التأكيد مرة أخرى على أن الأرقام تصف الواقع ولا تعكس الحقائق.
فهذا الترتيب لا يعني بحال من الأحوال أن الاقتصاد المصري يأتي من حيث قيمة الناتج المحلي بعد الصين والهند، أو أن هناك أي وجهة نظر للمقاربة بين الاقتصاديات الثلاث، فالصين على سبيل المثال حققت ناتجًا محليًا إجماليًا في 2018 بلغ 13.6 تريليون دولار، والهند حققت ناتجًا محليًا في نفس العام 2.7 تريليون دولار، أما مصر فحققت في نفس العام أيضًا ناتجًا محليًا يقدر بنحو 250 مليار دولار فقط، وذلك وفق إحصاءات قاعدة بيانات البنك الدولي.
فالناتج المحلي لمصر يبلغ نسبة 1.8% من قيمة الناتج المحلي للصين، ونحو 9.1% من الناتج المحلي للهند. إذن ما يتعلق بترتيب مصر على قائمة معدلات النمو الاقتصادي لمجلة الإيكونوميست في الربع الأول 2019 مجرد ترتيب رقمي، ليس أكثر ولا أقل.
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحًا، تدلنا إحصاءات قاعدة بيانات البنك الدولي أن بعض الدول التي تصنف على أنها ضمن قائمة الدول الأشد فقرًا على مستوى العالم، حققت معدل نمو مرتفع في عام 2018، بينما دول متقدمة حققت معدلًا منخفضًا في نفس العام، فمثلًا بنغلاديش ورواندا وغينيا حققوا معدلات نمو على التوالي 7.9%، و8.7%، و8.7%، بينما في أمريكا وفرنسا والمانيا كان معدل النمو على التوالي هو 2.9%، و1.7%، و1.4%.
وغني عن البيان أن ارتفاع معدل النمو الاقتصادي بلا شك شئ إيجابي، ولكن إذا صاحبته عوامل أخرى، أهمها مصدر ذلك النمو، هل هو أنشطة إنتاجية ذات قيمة مضافة عالية، أم مصدره العمل في مشروعات البنية الأساسية والإنشاءات والقطاعات الريعية، والأمر الأكثر أهمية يتعلق بطريقة توزيع العائد من هذا النمو، هل تستفيد منه الطبقتان الفقيرة والمتوسطة بشكل كبير، أم تنفرد به الطبقة الغنية من المجتمع؟ وهل ينعكس هذا النمو على حياة الناس، وبخاصة في قطاعات التعليم والصحة والبنية الأساسية؟
الفترة التي تحدث عنها تقرير الايكونوميست هي من يناير – مارس 2019، وهي متضمنة في الإحصاءات المصرية ضمن الشهور التسعة الأولى من عام 2018-2019، والتي نشر البنك المركزي المصري نتائجها الخاصة بأداء ميزان المدفوعات، ويمكننا استخلاص بعض النتائج التي لا تعكس وجود طفرة لهذه الزيادة المزعومة في النمو الاقتصادي.
تراجع صادرات مصر السلعية خلال الفترة (يوليو 2018 – مارس 2019) إلى 12.3 مليار دولار، مقارنة بـ 12.7 مليار دولار في نفس المقارنة من العام الماضي، أي أن هناك تراجعًا بنحو 398 مليون دولار، خلال الفترة. فأين أثر زيادة معدلات النمو الاقتصادي؟!
وعلى نفس النهج، زادت الوارادات السلعية المصرية إلى 41.8 مليار دولار مقارنة بـ 37.4 مليار دولار في نفس الفترة المناظرة من العام الماضي، أي إن الزيادة في الواردات السلعية تقدر بنحو 4.4 مليار دولار.
أما الاستثمار الأجنبي المباشر، فتراجع خلال نفس الفترة بنحو 1.3 مليار دولار، وبنسبة تصل إلى 22.8%، ومن هنا ينتفي ادعاء بعض أساتذة الاقتصاد الموالين للانقلاب العسكري، من أن ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي سوف تؤدي إلى جذب الاستثمارات الأجنبية.
نعم بيانات أداء ميزان المدفوعات خلال الفترة (يوليو 2018 – مارس 2019) شهدت زيادات في عوائد الصادرات النفطية، وعوائد السياحة، وزيادة طفيفة جدًا في عوائد المرور بقناة السويس، إلا أنها مصادر ريعية ولا تعكس وجود قيمة مضافة تشكل مصدرًا لقوة الاقتصاد المصري.
مصادر النمو الاقتصادي بمصر، تتسم بمردود ضعيف من حيث القيمة المضافة، نظرًا لأنها تعتمد على قطاع الخدمات بشكل رئيس، ومساهمة كبيرة لقطاعات الإنشاءات والعقارات، مقارنة بمساهمة قطاعي الزراعة والصناعة.
ويدلل على ما ذهبنا إليه فيما يتعلق بأداء النمو الاقتصادي بمصر، ما تضمنته خطة التنمية الاجتماعية والاقتصادية للعام المالي 2017-2018 صفحة رقم 61، والمنشورة على موقع وزارة التخطيط والمتابعة المصرية، من أن معدلات مساهمة القطاعات في النمو المستهدف، هي: تجارة الجملة والتجزئة 17.7%، التشييد والبناء 14.4%، الأنشطة العقارية 11.9%، الصناعات التحويلية 10.5%، الزراعة 8.3%.
سوف تكون معدلات النمو الاقتصادي بمصر ذات دلالة إيجابية حينما تأتي من إنتاج مصر لخطوط الإنتاج، وزيادة المكون التكنولوجي في منتجاتها المحلية أو الموجهة للتصدير، أو في حالة زيادة مساهمة القطاعات الإنتاجية عن القطاعات الخدمية، ولابد وأن يصاحب هذا وجود توزيع حقيقي وعادل لنتائج النمو على الطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
ولكن يحول دون تحقيق هذه الفرضيات، غياب الديمقراطية والحريات عن المجتمع المصري، وكذلك غياب مجتمع الأعمال والمجتمع المدني عن صنع واتخاذ القرار الاقتصادي، كما يعوق تحقيق الاستفادة من زيادة معدل النمو الاقتصادي وجود مجلس نواب صوري، واستمرار الجيش في السيطرة على مقدرات الاقتصاد المصري في القطاعات المختلفة.
وثمة حقيقة لابد أن نستحضرها عن قراءة ما ينشر عن الاقتصاد المصري سواء في وسائل الإعلام الأجنبية أو الإقليمية، وهي أن شركات العلاقات العامة التي تقوم على تسويق زائف عن أداء الاقتصاد المصري، لن تغير شيئًا من الواقع المرير الذي يشعر به المواطن المصري.