إشعال أزمة الدولار
خروج الاستثمارات الأجنبية
فقدان الثقة
ارتفاع تكلفة التمويل
استخدام غير كفء للديون
من مهام صانع السياسات الاقتصادية أن يحرص على التنسيق بين مكوناتها، لكي يحقق التوازن الاقتصادي؛ فلا تطغى سياسة على أخرى، فعلاج السياسة النقدية مثلا لا يكون على حساب السياسات الأخرى: التجارية أو المالية أو سياسة الاستثمار… إلخ.
ولكن المشهد الاقتصادي في مصر ينم عن غياب سياسات اقتصادية أصلا، فمنذ أكثر من عامين والمؤشرات الاقتصادية السلبية تتوالى بسبب تصور القائمين على الأمر بأن حل قضية سعر الصرف بيد البنك المركزي وحده، وأن علاجها يتم من خلال مجموعة من الإجراءات بالسماح أو المنع يتخذها البنك المركزي.
وفي ظل مناخ يتسم بالدكتاتورية وغياب المشاركة من قبل شركاء التنمية (الحكومة، وقطاع الأعمال، والقطاع العائلي) تصدر القرارات الفردية، سواء في ما يخص الاستثمار أو التمويل أو المشروعات القومية الكبرى. وفي ما يلي نشير إلى بعض الثمار المُرة التي جنتها مصر بسبب سياسات اقتصادية تتسم بالعشوائية منذ وقوع الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013.
إن مشكلة سعر الصرف في مصر هي نتيجة طبيعية لعجز العرض عن تلبية احتياجات الطلب، فقد تراجعت إيرادات الصادرات السلعية بنحو أربعة مليارات دولار بنهاية 2014-2015، أي بنسبة 15.3% عن 2013-2014. وفي الربع الأول من عام 2015-2016 تراجعت عدة مؤشرات مقارنة بما كانت عليه في الربع الأول من عام 2014-2015؛ فالإيرادات السياحية تراجعت بـ 366 مليون دولار، وأيضا تراجعت إيرادات العبور بقناة السويس بنحو 108 ملايين دولار، وتراجعت تحويلات العاملين بالخارج بنحو 417 مليون دولار.
"
كان الواجب أن تبحث الحكومة عن سبل زيادة العرض وليس تقليص الطلب، خاصة أن الطلب على الدولار يرتبط بعوامل هيكلية
"
في غضون ذلك، ظل الطلب على الدولار كما هو، وكان الواجب أن تبحث الحكومة عن سبل زيادة العرض وليس تقليص الطلب، خاصة أن الطلب على الدولار يرتبط بعوامل هيكلية، حيث تزيد مستلزمات الإنتاج والعدد والآلات عن 75% من إجمالي الواردات المصرية.
إن مجموعة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية منذ وقوع الانقلاب العسكري تجاه سعر الصرف صبت في تأجيج الأزمة، وحققت أرباحا هائلة للمضاربين في السوق السوداء، وزعم الحكومة أنها تحارب السوق السوداء للدولار غير صحيح، فمؤخرا أُعلن عن اجتماع بين محافظ البنك المركزي المصري وممثلي شركات الصرافة لكي يتم الاتفاق على ألا يتجاوز سعر الدولار في السوق السوداء 9.25 جنيهات.
وهذا الإجراء الأخير يكرس نتائج وخيمة: أولها فشل البنك المركزي في السيطرة على أزمة الدولار من خلال ممارسات فنية، وأنه أسبغ قانونية على أسعار العملة بالسوق السوداء، واعترف بوجودها، والأخطر أنه أكد للمستثمرين الأجانب أن الأسعار المعلنة بالجهاز المصرفي المصري غير حقيقية، وبالتالي لا بد أن يعيدوا حساباتهم في ضوء أسعار السوق السوداء وليست السوق الرسمية، وستكون لهذا الأمر انعكاسات سلبية على تدفق الاستثمارات الأجنبية لمصر، في حين تعول الحكومة المصرية كثيرا على هذه الاستثمارات.
في الفترة الأخيرة دأبت الشركات الأجنبية التي تعمل في مصر منذ سنوات على الإعلان عن توقف نشاطها مؤقتا أو خروجها من مصر، لصعوبات تتعلق بمناخ الاستثمار، سواء من جراء نقص الدولار أو عدم توفر الطاقة وارتفاع تكلفتها.
"
أصبحت الحكومة تعمل تحت ضغط المستثمرين الأجانب، كما حدث مع شركة الخطوط الجوية البريطانية
"
ولم يقتصر الأمر على الشركات العاملة في الإنتاج السلعي، لكنه امتد كذلك إلى الشركات الأجنبية في قطاع الخدمات، التي تتواجد بمصر منذ عقود، وكان آخرها بنك باركليز البريطاني الذي أعلن أن الدافع لبيع فرعه المصري أن مصر ليست على خريطة أعماله الإستراتيجية. ولا شك أن هذا السبب كفيل بأن تعيد الاستثمارات الأجنبية حساباتها في اتخاذ قرار بالمجيء لمصر؛ فإعلان باركليز بهذه الصورة بمثابة دراسة جدوى مجانية مفادها أن مصر لا تمثل عمقا إستراتيجيا لاستثمارات دائمة.
فلقد أصبحت الحكومة تعمل تحت ضغط المستثمرين الأجانب، كما حدث مؤخرا مع شركة الخطوط الجوية البريطانية التي أعلنت وقف تعاملاتها بالجنيه في السوق المصري، فسارع البنك المركزي وحوّل لها أرباحها السنوية، وكذلك فعلت إحدى شركات الإسمنت، ومستثمرو البورصة، الذين تفاخرت الحكومة بأنها حولت 50% من أرباحهم بالدولار.
من أخطر السلبيات على النشاط الاقتصادي أن يفقد شركاء التنمية الثقة في ما بينهم، وقد خرج السيسي قائد الانقلاب العسكري بمصر مؤخرا ليطلب من الشعب المصري أن يثقوا به، وهي رسالة معبرة عن واقع مؤلم يشهده المجتمع المصري بعد عامين من الوعود بإنجازات حكومية.
أضف إلى ذلك عدم التوقف عن طلب التبرعات من شعب تنخفض معدلات ثروته بشكل ملحوظ، وتقل دخوله كذلك، بفعل معدلات التضخم والمضاربة في العديد من الأنشطة الاقتصادية.
الثقة التي يطلبها قائد الانقلاب العسكري وحكومته لن تأتي إلا من خلال أعمال يجد رجل الشارع صداها في واقع حياته المعيشية، ولكن ارتفاع معدلات التضخم والفساد الحكومي وكذلك انهيار بعض الجسور العامة التي أنشئت حديثا في عهد السيسي، وانتشار الوساطة والمحسوبية بشكل كبير في الوظائف العامة؛ جعلت المواطن يفقد الثقة في إمكانية حدوث إصلاح في أي مجال من مجالات الحياة العامة بمصر، وبالتالي يفقد الثقة في الحكومة بشكل عام.
تحت وطأة أزمة الدولار وهشاشة وضع احتياطي النقد الأجنبي، أعلنت الحكومة مجموعة من الإجراءات الخاصة بتدبير الدولار، آخرها إصدار شهادات لصالح المصريين بالخارج تتراوح نسبة الفائدة عليها بين 3.5 و5.5%، وهي نسبة فائدة أعلى من المعدل السائد في السوق العالمية بفارق يتراوح بين 1 و3%.
"
الشهادات الدولارية تستهدف فقط مساندة رصيد احتياطي النقد الأجنبي، وستتحمل الخزانة العامة للدولة أو البنك المركزي تكلفة التمويل العالية
"
وبحسابات التكلفة والعائد فلن يكون بوسع البنك أن يقدم حصيلة هذه الشهادات دون ربح، فبكم سيقدمها البنك للعميل؟
بلا شك أن المقترض بالدولار لديه السوق الدولية، وهي أقل تكلفة من التعامل مع البنوك المصرية في حالة الاستفادة من عوائد الشهادات الدولارية.
بالتأكيد هذه الشهادات تستهدف فقط مساندة رصيد احتياطي النقد الأجنبي، وبالتالي ستتحمل الخزانة العامة للدولة، أو البنك المركزي تكلفة التمويل العالية، ويضاف إلى ارتفاع التكلفة أن هذه الآلية ترسخ لظاهرة "الدولرة"، حيث سيحتفظ أصحاب الشهادات بقيمتها بالدولار ويحصلون على عوائدها بالدولار كذلك.
من آفة السياسة الاقتصادية المتبعة في مصر في ما يخص المشروعات القومية التي أعلن عنها، أنها تريد تمويلها بواسطة قروض قصيرة الأجل، وهو من أكبر مظاهر التمويل الفاشل، لأن طبيعة العائد من هذه المشروعات طويل الأجل، وبالتالي تستمر الحكومة في دوامة الديون لتستهلك الديون قصيرة الأجل بديون أخرى بلا نهاية.
وهذه العشوائية في بناء المشروعات هي ما دعت البنك الدولي إلى رفض تمويل مشروع استصلاح 1.5 مليون فدان بمصر، فمعظم المناطق المختارة للمشروع صحراوية وتحتاج إلى بنية أساسية ضخمة لا يمكن أن يتحملها القطاع الخاص أو الحكومة، لذلك تبنى البنك الدولي موقفه بسبب عدم كفاءة التمويل.
ولعل ارتفاع الدين المحلي لنحو تريليون جنيه مصري على مدار العامين الماضيين أحد النتائج لعشوائية التمويل بالديون وعدم توافقها مع طبيعة المشروعات التي تتبناها الحكومة المصرية.
الثمار المرة لعشوائية السياسة الاقتصادية بمصر، التي ذكرنا بعضها عاليه، تكرس لتحويل المشكلات الاقتصادية إلى معضلة يصعب التعامل معها من خلال حلول ممكنة إلا بثمن مرتفع جدا يؤجل تحقيق التنمية بمصر لعقود قادمة