حسب مقتضيات العمل بدستور 2014 بمصر، فعلى الحكومة أن تتقدم بمشروع موازنة العام المالي القادم 2017-2018 في الأول من أبريل/نيسان القادم، حيث تنص الفقرة الأولى من المادة 124 على أن "تشمل الموازنة العامة للدولة كافة إيراداتها ومصروفاتها دون استثناء ويعرض مشروعها على مجلس النواب قبل تسعين يوما على الأقل من بدء السنة المالية، ولا تكون نافذة إلا بعد موافقته عليها، ويتم التصويت عليها بابا بابا".
وتُعد الموازنة العامة في مصر واحدة من المرايا العاكسة لأزمة مصر الاقتصادية، حيث تعاني الموازنة من مشكلات مزمنة، وبخاصة بعد الانقلاب العسكري، حيث تم اتباع إجراءات مالية ونقدية بهدف الإصلاح المالي والنقدي، ولكنها أتت بمردود سلبي على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
وعلى الرغم من تخفيض مخصصات الدعم بالموازنة، وزيادة رسوم العديد من الخدمات الحكومية، فإن الدين العام في زيادة مستمرة، وكذلك أعباءه من أقساط وفوائد. ولم يشفع ذلك بنقل العملية الإنتاجية بشكل إيجابي، بل تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي عام 2015-2016 إلى 2.3% بعد أن كان 3.4% في 2014-2015.
وسوف تواجه موازنة مصر القادمة مجموعة من الصعوبات، التي تحدّ من تحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية، وتزيد من مشكلاتها المزمنة، وفيما يلي نشير إلى بعض من هذه الصعوبات:
اشترط دستور 2014 على ألا تقل مخصصات الإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم، والتعليم الجامعي والبحث العلمي، عن نسبة 10% من الناتج القومي الإجمالي، وذلك بدئا من العالم الحالي، إلا أن الحكومة لم تلتزم بذلك، وهو ما تم رصده كمخالفة دستورية من قبل البرلمان باعتماده موازنة 2016-2017، دون الالتزام بمواد الدستور.
وواقع أداء القطاعات المذكورة يستحق هذه النسب من الإنفاق العام، بل وزيادة، نظرا لتردي الخدمات وتراجعها خلال السنوات الماضية، لكن يبقى قيد الأزمة التمويلية التي تمر بها مصر يفرض نفسه على تحقيق ما اشترطته مواد الدستور لأسباب عدة، على رأسها تواضع أداء الناتج المحلي الإجمالي، وسوء الإدارة الاقتصادية من حيث تخصص الموارد الاقتصادية المتاحة.
ويتوقع ألا توفي موازنة عام 2017-2018 بهذا القيد الدستوري. وإذا رجعنا لمخصصات التعليم والصحة في أفضل تقديراتها بالموازنة الحالية، وفق التقسيم الوظيفي، وإضافة إنفاق بعض جهات الموازنة العامة والهيئات الاقتصادية بالقطاعين، نجد أن إجمالي المخصصات 190 مليار جنيه (10.6 مليارات دولار) (123 مليار جنيه للتعليم + 67 مليار جنيه للصحة)، وهو ما يقترب من 5.8% من الناتج القومي الإجمالي باعتباره مقدرا بـ3.2 تريليونات جنيه.
ويصعب على الحكومة أن توفي بشرط نسب المخصصات التي نص عليها الدستور، لأن معنى ذلك أن تزيد الحكومة تلك المخصصات بنسبة 84% مما هي عليه في الموازنة الحالية.
بلغت فوائد الدين العام في موازنة العام الجاري نحو 292 مليار جنيه (16.2 مليار دولار)، وبما يعادل نسبة 31% من حجم الإنفاق العام، وبلا شك أن الدين العام مع بداية يوليو/تموز 2017 سوف يشهد زيادة ملحوظة بسبب التوسع في الدين المحلي والخارجي معا، وإن كانت تكلفة الدين الخارجي ستكون أعلى بسبب انخفاض قيمة الجنيه منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016، مما سيزيد من أعباء تدبير خدمة الدين الخارجي من أقساط وديون مقوما بالجنيه في مشروع الموازنة المقبل.
ولنا أن نتخيل أن تتجاوز نسبة خدمة الدين العام، المتمثلة في الفوائد فقط لمعدل 31%، ومدى تأثير ذلك على توزيع باقي المخصصات على التعليم والصحة والاستثمار والبنية الأساسية.
من الصعوبة بمكان أن تتحمل الموازنة المقبلة زيادة في فاتورة الأجور أكبر من نسبة 10%، وفي أحسن التقديرات 15%، ومع ذلك لن تفلح هذه الزيادة في ردم الفجوة بين الأجور والأسعار، فمعدل التضخم على أساس سنوي في فبراير/شباط الماضي تجاوز 30%.
الجدير بالذكر أن مخصصات الأجور بالموازنة الحالية كانت بحدود 228 مليار جنيه، وأن نسبة النمو بمخصصات الأجور مقارنة بالعام السابق بلغت نحو 7.5%، وهو ما يعني أن احتمال أن تنمو مخصصات الأجور بنسبة أكبر من معدلات نمو العام الماضي غير وارد، في ظل ضغوط صندوق النقد الدولي.
ومن شأن استمرار وجود فجوة كبيرة بين الأجور والأسعار أن يؤدي إلى زيادة معدلات الفقر، وكذلك زيادة معدلات الفساد داخل أروقة الجهاز الحكومي، فضلا عن انخفاض إنتاجية العاملين بالقطاع الحكومي والمؤسسات العامة، نظرا لشعورهم بأنهم لا يحصلون على أجور عادلة تكفي لتغطية احتياجاتهم الأساسية.
مع نهاية أبريل/نيسان وأوائل مايو/أيار المقبلين، ستزور البعثة الفنية لصندوق النقد القاهرة، وهي الأيام التي من المفترض أن تناقش خلالها الموازنة العامة بمجلس النواب، وإن كانت الزيارة تأتي بعد تقديم الحكومة مشروع الموازنة، إلا أنها بلا شك سوف تستوفي الجزء الأكبر من شروط الصندوق فيما يتعلق بتخفيض الدعم وفرض ضرائب جديدة، حتى تنتهي البعثة إلى قرارها باستحقاق مصر للشريحة الثانية من القرض.
وسوف تعمل مصر على تلافي ما حدث من قبل صندوق النقد في تونس خلال الأيام الماضية، حيث تم توقيف صرف إحدى شرائح قرض الصندوق لتونس بسبب عدم وفائها بالإصلاحات المتفق عليها بشأن الأجور بالعام المالي الجديد.
وكانت مصر قد تعهدت بأن يتم تفعيل برنامج رفع الدعم الذي بدأ في العام المالي 2014-2015، برفع أسعار الوقود وتخفيض الدعم الحكومي له، وكذلك الغاز الطبيعي وخدمات الكهرباء والماء.
ولذلك بدأت وسائل الإعلام في التمهيد لزيادة في أسعار الوقود اعتبارا من بداية يوليو/تموز القادم بقرابة 30%، كما تم إصدار اللائحة التنفيذية لقانون ضريبة القيمة المضافة، وينتظر أن تتخذ الحكومة خطوات عملية في خصخصة حصص من المؤسسات والشركات العامة مع بداية العام المالي القادم.
في الأوضاع الطبيعية تتيح الموازنة لصناع السياسة الاقتصادية العديد من الأدوات لتنشيط الحياة الاقتصادية والاجتماعية، من تشجيع الاستثمار، وتحفيز الإنتاج، وعدالة توزيع الثروة، وحماية الصناعة الوطنية، وغير ذلك من أهداف إيجابية.
ولكن موازنة مصر تحولت منذ ما يزيد على 17 عاما إلى موازنة استهلاكية، وأصبحت عبئا على الاقتصاد بسبب الإفراط في فرض الضرائب وتحجيم مخصصات الاستثمار العام الذي لا يتجاوز 9% من الإنفاق العام بأي حال من الأحوال.
فضلا عن تغول مخصصات الدعم والدين العام والأجور، والتي تتجاوز نسبة 80% من مخصصات الإنفاق العام، وهي بطبيعتها نفقات جارية، ولا يستفيد منها قطاع الاستثمار، مما أضعف العائد الاقتصادي والاجتماعي للإنفاق العام بمصر.
وبذلك تحولت الموازنة المصرية بأدواتها المختلفة من دواء في يد صانع السياسة الاقتصادية إلى داء، تتعدد أعراضه، في مختلف القطاعات الاقتصادية، لتعيش مصر ما تسمى بالحلقة المفرغة، وبدلًا من توجيه الجهود لزيادة القيمة المضافة في الاقتصاد، تتركز في كيفية تدوير الديون وزيادة الجباية