خروج عن المألوف
التداعيات السلبية
مخطط لخنق مصر
قضية مياه نهر النيل من القضايا المثارة على مدار العقود الثلاثة الماضية، بسبب الغياب المصري عن أفريقيا خلال هذه الفترة، ودخول أميركا وإسرائيل إلى دول حوض النيل، والعبث بقضية مصيرية لهذه الدول.
فإنشاء سدود بدول المنبع كان دائمًا محل نقاش بين دول المنبع ودول المصب بحضور المؤسسات الدولية، وغالبًا ما كانت الأمور تنتهي إلى أن هذه المشروعات ستؤثر على حصة دول المصب، وستترتب على نقص حصص المياه لهذه الدول مشكلات اقتصادية.
غير أن إعلان إثيوبيا منفردة خلال الأيام القليلة الماضية تحويل مياه نهر النيل الأزرق لإنشاء "سد النهضة" على أراضيها، كان بمثابة خروج عن المألوف إقليميًا بين دول حوض النيل.
"
متطلبات بناء سد النهضة تفوق الإمكانيات المادية المتاحة لإثيوبيا، وثمة تدخلات من قبل دول أخرى من خارج إقليم حوض النيل تدفع لإقامة السد وتقبل بتحمل نفقات بنائه بهدف خنق مصر مائيًا وبالتالي اقتصاديًا واجتماعيًا
"
والمعروف أن متطلبات بناء سد النهضة تفوق الإمكانيات المادية المتاحة لإثيوبيا، وأن ثمة تدخلات من قبل دول أخرى من خارج إقليم حوض النيل، تدفع لإقامة السد وتقبل بتحمل نفقات بنائه بهدف خنق مصر مائيًا وبالتالي اقتصاديًا واجتماعيًا، وإظهار مصر بعد الثورة في موقف الضعيف غير القادر على حماية مصالحه التاريخية التي لم تتأثر منذ عقد الستينيات من القرن الماضي حين أنشئ السد العالي بمصر.
علاقة دول حوض النيل وحصة الدول في مياه النهر نظمتها مجموعة من الاتفاقيات بين دول الحوض، منها اتفاقيات 1902، و1929، و1959. ولا تجيز هذه الاتفاقيات وجود تصرفات منفردة بشأن مياه النهر. كما أن القانون الدولي ينص على مجموعة من المبادئ، بينها مبدأ حسن النية في تطبيق المعاهدات الدولية، بمعنى عدم الإضرار بمصالح الآخرين نتيجة لتطبيق هذه الاتفاقيات. ومن هنا فالتصرف الإثيوبي خالف الاتفاقيات المبرمة بشأن مياه النيل، وكذلك مبادئ القانون الدولي.
ولا شك أن ملف المياه في منطقة حوض النيل له العديد من الجوانب الاقتصادية والسياسية. ويتناول هذا التحليل الآثار الاقتصادية السلبية على مصر بسبب عزم إثيوبيا إقامة مشروعها لسد النهضة.
ظل نهر النيل مصدر الحياة في مصر عبر تاريخها الطويل والممتد، فعلى ضفاف النيل قامت حضارة المصريين على مختلف العصور، وظل الاقتصاد المصري اقتصادًا زراعيًا على مدار سنوات طويلة، إلا أن اتفاق دول حوض النيل الموقع في عشرينيات القرن الماضي حدد لمصر حصة من مياه النيل تقدر بنحو 55 مليار متر مكعب سنويًا. وعلى هذا الأساس تم تخطيط مشروعات مصر الزراعية والمجتمعية في ضوء هذه الحصة، ومن ثم فإن التأثير على هذه الحصة بإنقاصها سيؤثر على الاقتصاد المصري، من خلال الجوانب التالية:
تشير التقديرات إلى أنه في حال إقامة إثيوبيا مشروع سد النهضة فإن حصة مصر من مياه نهر النيل ستنخفض بنحو 9 إلى 12 مليار متر مكعب. وخطورة هذا الأمر تكمن في أن مشروعات استصلاح الأراضي بمصر ستتوقف بسبب ما سينتج من عجز في كميات المياه المتاحة، وبالتالي ستتوقف المساحات الزراعية بمصر عند معدلها الحالي وهو قرابة ثمانية ملايين فدان.
إن المساحات الزراعية المتاحة لمصر حاليًا لا تتناسب مع تزايد عدد سكانها الذي يناهز 92 مليون نسمة، وهو قابل للزيادة خلال السنوات القادمة في ظل معدل زيادة سكانية تقدر بنحو 1.9% سنويًا. ومما هو معروف أن ثبات المساحة الزراعية ووجود زيادة سكانية سيؤثر بشكل كبير على حجم الاحتياج من المنتجات الزراعية والغذائية التي تنتجها مصر.
وفي ظل حصتها الحالية من المياه بدون نقصها، ستستورد مصر نحو 60% من غذائها، فما بالها لو نقصت حصة المياه وتوقف التوسع في استصلاح الأراضي الصحراوية؟ ما من شك في أن ذلك سيزيد العجز في الميزان التجاري المصري الذي يعاني بدوره من عجز تاريخي.
إن فقدان مصر لمساحات من أراضيها الزراعية الحالية، أو توقف مشروعاتها لاستصلاح أراضيها الصحراوية، يعني ببساطة فقدان عدد كبير من مواطنيها لفرص العمل التي يتيحها لهم قطاع الزراعة الذي يستوعب نحو 6.5 ملايين عامل. والمعروف أن معدل البطالة بمصر في ظل تحقيقها لمعدلات نمو مرتفعة، بلغ 7% كانت في حدود 10%، فكيف يكون الوضع إذا تراجعت مساحة الأراضي الزراعية؟
"
إذا أقامت إثيوبيا مشروع سد النهضة فإن حصة مصر من مياه نهر النيل ستنخفض بنحو 9 إلى 12 مليار متر مكعب
"
لا شك أن الأمر سيزداد تعقيدًا من حيث مساهمة قطاع الزراعة في توفير فرص عمل، بل سيكون القطاع طاردا للعمالة في ظل مشكلات الحصول على المياه اللازمة للزراعة.
يزيد أمر إنشاء سد النهضة من مشكلة مصر المائية، فالإحصاءات تشير إلى أن نصيب الفرد في مصر من المياه يبلغ نحو 750 مترا مكعبا سنويًا، وهو دون المتوسط العالمي لاستهلاك الفرد من المياه والبالغ ألف متر مكعب سنويًا. ويتوقع أن ينخفض نصيب المصري من المياه إلى 525 مترا مكعبا سنويًا عام 2050.
وقد بنيت هذه التقديرات على أساس ثبات حصة مصر من مياه النيل، ولكن في ظل افتراض استكمال سد النهضة بإثيوبيا وخصم نحو 9 أو 12 مليار متر مكعب سنويًا من حصة مصر من مياه النيل، فإن ذلك يعني انخفاض حصتها الحالية بنسب تتراوح بين 16.3 و21.8%. وهذا سيضيف أعباء اقتصادية جديدة على كاهل الاقتصاد المصري، تتمثل في تكاليف تحلية مياه البحر لسد العجز في المياه الصالحة للشرب، أو ما يمكن عمله من خلال إعادة المعالجة لمياه الصرف للاستفادة منها في ري الأراضي الزراعية.
وهذه الإجراءات المتعلقة بعمليات التحلية أو المعالجة ستربك خطط التنمية في مصر التي تحاول أن تخرج من مشكلاتها الاقتصادية الآنية، أو الخروج من مصاف الدول النامية لتحتل مركزًا متقدمًا في مصاف الدول الصاعدة عبر مشروعها للدخول في تجمع دول البريكس.
يمثل توفير الطاقة في مصر خلال السنوات القليلة الماضية تحديًا كبيرًا، حيث تبنت مصر منذ عام 2008 سياسات من شأنها أن تعمل على إلغاء دعم الطاقة الذي يحمّل الموازنة العامة نحو 120 مليار جنيه (نحو 17.2 مليار دولار) سنويًا، وتركزت سياسة إلغاء الدعم على الصناعات كثيفة استخدام الطاقة، كما تم رفع أسعار الوقود للسيارات والبيوت.
وبعد الثورة اشتدت أزمة الطاقة في مصر، ومن شأن التأثير على حصة مصر من المياه أن تنخفض الكهرباء المنتجة من خلال السد العالي الذي يوفر نسبة 10 إلى 12% من الطاقة المنتجة في البلاد. ويعتبر الـتأثير على هذه الحصة رغم صغرها نقطة ضغط على الاقتصاد المصري في ظل ظروفه الحالية، أو خلال المرحلة المقبلة.
فمصر دفعت ثمنًا كبيرًا لبناء السد العالي في الستينيات، ومن حقها أن تحصل على العائد من هذه التكلفة على مدار سنوات طويلة. فخفض حصة السد العالي من إنتاج الكهرباء يعني تعويضها من مصادر أخرى ذات تكلفة اقتصادية عالية، فضلًا عن نظافة المصادر المائية في توليد الكهرباء.
والتفكير في مصادر بديلة للكهرباء المتحصل عليها من السد العالي، يستغرق وقتًا في حالة اللجوء إلى المصادر الجديدة والمتجددة مثل الرياح أو الطاقة الشمسية أو تدوير المخلفات، كما أن اللجوء إلى الطاقة النووية محفوف بكثير من المخاطر رغم أهميته لمصر، وكذلك اللجوء إلى مصادر أحفورية من خلال النفط والغاز ذوي التكلفة العالية، وخاصة بعدما أصبحت مصر تستورد أكثر مما تصدر من النفط والغاز بسبب سياسات التصدير الخاطئة التي نفذتها قبل الثورة.
ثمة مجموعة من التحديات تواجه مصر بعد ثورة 25 يناير بسبب سياستها الخارجية الجديدة التي تعتمد على الاستقلالية، وبالتالي فهناك محاولات لإعادة مصر داخل إطار احتوائي من قبل بعض القوى العالمية والإقليمية، والتلويح بإقامة سد النهضة في إثيوبيا واحدة من أوراق الضغط على القاهرة.
"
تقديرات تكلفة سد النهضة تتراوح بين 5 و8 مليارات دولار، وقد أعلنت الصين أنها ستتحمل مليارين، في حين رفض البنك الدولي المشاركة في تمويل السد بسبب النزاعات الموجودة بين دول حوض النيل
"
الدراسات الخاصة بالتربة في إثيوبيا كانت عادة ما تنتهي إلى عدم ملاءمة هذه التربة للاحتفاظ بالمياه لفترات طويلة نظرًا لطبيعتها الجيرية، وهو ما يزيد من احتمال انهيار السدود في هذه المنطقة. والشروع في تنفيذ سد النهضة في ظل هذه الدراسات يحتمل أحد أمرين: دخول إثيوبيا في تكلفة مالية لا تحتملها في ظل اقتصادها الضعيف، أو تكفّل جهات خارجية بدفع هذه التكلفة مع علمها بعدم نجاعة المشروع اقتصاديًا، لكنها تهدف إلى تشديد الخناق على مصر.
فتقديرات تكلفة سد النهضة تتراوح بين 5 و8 مليارات دولار، وقد أعلنت الصين أنها ستتحمل مليارين، في حين رفض البنك الدولي المشاركة في تمويل السد بسبب النزاعات الموجودة بين دول حوض النيل حول إقامة مثل هذه السدود.
لكن الخبراء السياسيين يشيرون إلى حرص بعض الدول المعادية لسياسة مصر -دون أن يسموها- على الدفع لبناء هذا السد.
ولا بد أن نأخذ في الاعتبار أن إثيوبيا تصنف كإحدى الدول الأشد فقرًا وفق تصنيف تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. كما تشير قاعدة بيانات البنك الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي لإثيويبا لم يتجاوز 30 مليار دولار عام 2011، وأن متوسط دخل الفرد السنوي بحدود 370 دولارا، وهي من أقل النسب الموجودة لدخل الفرد في العالم.
لكن مصر تملك العديد من الأوراق المهمة لإدارة هذا الملف، خاصة أن الملف له بعد تاريخي، ولدى مصر مؤسسات ذات خبرة في إدارته، سواء على الصعيد الدبلوماسي أو باستخدام القوى الناعمة عبر الأزهر والكنيسة. ويمكن الاستشهاد هنا بنتائج اللجنة الثلاثية التي تشكلت عام 2011 باتفاق بين مصر والسودان وإثيوبيا عندما أعلنت الأخيرة رغبتها في بناء سد النهضة. وتضم اللجنة عشرة أعضاء: اثنان من كل بلد والبقية خبراء دوليون.
وكان يفترض أن تعلن اللجنة تقريرها أمس السبت، إلا أن تسريبات المشاركين في اللجنة أشارت إلى أن إثيوبيا عجزت عن إثبات عدم وجود ضرر على مصر والسودان ببناء سد النهضة، وبالتالي لا بد من العودة إلى المفاوضات للبحث عن مخرج للأزمة.
وتشير نتائج اللجنة إلى حق مصر في حصتها من المياه، وإلى أن إقامة سد النهضة سيؤثر بلا شك على حصة كل من مصر والسودان من مياه النيل.