على ما يبدو أن محافظ البنك المركزي، يتعرض لحالة من فقدان الذاكرة عندما يجلس أمام كاميرات التلفزيون، فالرجل قبل ذلك قال إن سعر الدولار سيكون بحدود 4 جنيهات مصرية، في الوقت الذي قفزت فيه أسعار الدولار لتلامس نحو 20 جنيهًا، ومؤخرًا في مقابلته مع إحدى الفضائيات تحدث عما حدث من تطورات حول برنامج الإصلاح الاقتصادي، وبخاصة في قضية تحسين سعر صرف الجنيه.
نسي طارق عامر أنه محافظ البنك المركزي المصري، فقال إنه عند بدأ العمل في برنامج الإصلاح الاقتصادي “تم الاستعانة بخبراء العالم كله للاستفادة من خبراتهم، لأن ده اقتصاد بلد”، وهي إساءة لخبراء الاقتصاد، إذا ما كانت نتيجة اجتماعهم حول إصلاح الاقتصاد المصري، قد نتج عنها أن يكون 60% من الشعب المصري إما فقراء أو معرضين للوقوع في الفقر.
ومن الإساءة إلى خبراء اقتصاد العالم الذين استعان بهم طارق عامر، ألا يرشدوه إلى ضرورة بناء قاعدة إنتاجية قوية لمصر، لتتحول إلى بلد يكتفي ذاتيًا من الاحتياجات الأساسية في مجالات الزراعة والغذاء، والصناعات التحويلية، فضلًا عن تحول مصر إلى بلد مصدر.
بدلًا من الاعتماد على العوائد الريعية من الخارج، والتي تعرض الاقتصاد المصري عادة لتقلبات شديدة، تفقده توازنه في كثير من الأحيان، مثل الاعتماد على عوائد السياحة، وتحويلات العاملين بالخارج، أو رسوم المرور بقناة السويس، وللأسف هي مصادر ثابتة لمصر، بغض النظر عن تغير قيمة العائد منها، ولم تتغير منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين.
لا أدرى هل طارق عامر مع تقدمه في السن لا يتذكر الأرقام بشكل جيد؟ أم أنه الكذب الذي يظهر لأي متابع للشأن الاقتصادي المصري، عامر قال في مقابلته التلفزيونية إنه من العوائد الإيجابية لإجراءات تحرير سعر الصرف، والتي أدت لارتفاع قيمة الدولار في البداية، أن الواردات السلعية انخفضت من 76 مليار دولار إلى 59 مليار دولار!
وعند العودة لأرقام وزارة المالية المصرية، عبر تقريرها المالي الشهري، وكذلك التقرير السنوي للبنك المركزي، ونشرته الإحصائية الشهرية، وجد العكس تمامًا، فمع تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016، زادت الواردات السلعية ولم تنخفض كما كذب طارق عامر.. فالأرقام التي يمكن الرجوع إليها لمن يريد على موقع وزارة المالية والبنك المركزي المصري، أن الواردات السلعية لمصر من 2015/2016 – 2018/2019 هي على التوالي 57.3 مليار دولار، 59 مليار دولار، 63.1 مليار دولار، 66.5 مليار دولار.
هل يدير طارق عامر اقتصادا أخر غير الاقتصاد المصري؟ أم أن الأرقام المنشورة في تقارير البنك المركزي الذي يديره غير صحيحة؟ عندما يتحدث محافظ البنك المركزي لأي بلد، فحديثه محسوب، ومؤثر في مجريات الحياة الاقتصادية، لكن حينما يجد المتابعون للشأن الاقتصادي، وبخاصة المستثمرون الأجانب أن حديث محافظ البنك المركزي يفتقد للمصداقية، أو يعتمد على الكذب، فستكون النتيجة هي عدم إقبال الاستثمارات الأجنبية المباشرة على مصر، إلا في احتكارات الشركات متعدية الجنسية في مجال النفط والغاز الطبيعي.
لا ينكر أحد أن هناك تحسنا في سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار على مدار الفترة الماضية، ومنذ بداية عام 2019، ولكن لذلك أسباب أخرى، أهمها وهو شيء سلبي، أن مصر توسعت في استقدام الأموال الساخنة من الخارج، حيث يتم بيع أذون وسندات الدين الحكومي للأجانب، الذين يأتون بالعملة الصعبة لمصر، ثم يقومون ببيعها للبنوك ويشترون أذون الخزانة والسندات، مما أدى إلى زيادة العرض من الدولار، وهو ما أدى إلى خفض قيمة الدولار، وتحسن سعر الجنيه.
ولا يخفى على أحد أن هذه الاستثمارات، بغض النظر عن كونها أموالا ساخنة، فهي في العادة ما يحوم حولها شبهة غسل الأموال، فمن يأتي للتعامل على أذون الخزانة وسندات الدين المحلي، هي صناديق استثمار، من مناطق “الأفشور”، من جزر في أوربا لا تحاسب المؤسسات أصحاب هذه الصناديق عن مصادر أموالها.
ولكن هل هذا الأمر بلا ثمن؟ الحقيقة أنها سياسة مكلفة، حيث تتكبد مصر سعر الفائدة المرتفع على تواجد الأجانب في سوق شراء الدين الحكومي، ومن المعلوم أن أعباء الدين في مصر أصبحت تمثل أكبر مخصص في بنود الإنفاق العام بالموازنة، فمصر وحسب تصريحات مسئوليها، أصبح لديها 22 مليار دولار استثمارات للأجانب في الدين الحكومي، بخلاف الدين العام الخارجي الذي أصبح بحدود 110 مليارات دولار في سبتمبر 2019.
نعم هناك تحسن في قيمة تحويلات العاملين بالخارج، وكذلك عوائد السياحة، ولكن العامل الأكبر الذي ساعد على تحسن سعر صرف الجنيه أمام الدولار، هو توسع الحكومة في جلب الأموال الساخنة للتعامل على الدين الحكومي، وكذلك توسعها في الدين الخارجي.
ليس عيبًا أن يستعين طارق عامر بورقة في يده عندما يخرج للإعلام، ليعلن أرقاما صحيحة، ولكنها سياسة عدم الشفافية، والإصرار على عدم مصارحة المجتمع المصري، بحقيقة ما تم توريط مصر فيه تحت مسمى، برنامج الإصلاح الاقتصادي.