يشعر المصريون بنوع من الأسى وهم يتطلعون إلى المنتجات التي تملأ أسواقهم من صُنع غيرهم، على الرغم من بساطة بعض المنتجات بل ورداءتها، وتبلغ قيمة واردات مصر السلعية قرابة ستين مليار دولار 25% منها سلع استهلاكية. وقد تسببت هذه الواردات في القضاء على صناعات محلية بسبب ضعف تنافسيتها أمام المنتجات المستوردة.
وقد شهدت الصناعة المصرية عهدين من الاهتمام، وهما عهد محمد علي وعهد جمال عبد الناصر، إلا أن فترتي أنور السادات وحسني مبارك قد شهدتا تراجعاً ملحوظاً في أداء قطاع الصناعة، ويأمل المصريون أن تعود الصناعة المصرية بعد ثورة 25 يناير لتمثل مصدر استقرار للاقتصاد.
وتتميز الصناعة بتوفير العديد من السلع التي يحتاجها المجتمع، دون التعرض لتقلبات السوق الخارجية، كما أنها توفر فرص عمل مستقرة، وقبل هذا وبعده يعد هذا القطاع أهم مصادر لتحقيق القيمة المضافة، فتتم الاستفادة من الموارد المحلية بشكل أكبر من بيعها أو استخدامها كمواد أولية.
وتبلغ مساهمة قطاع الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي ما بين 16.2% و17.1% خلال الفترة 2009-2012، وقد بلغت جملة الاستثمارات المنفذة في العام المالي 2011-2012 نحو 246.1 مليار جنيه (35.6 مليار دولار)، وكان نصيب الصناعات التحويلية منها 22.5 مليار جنيه (3.2 مليارات دولار)، وكان نصيب الاستثمارات في قطاع البترول والغاز بحدود 62.4 مليار جنيه (9 مليارات دولار).
"
مساهمة قطاع الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي يتراوح ما بين 16.2% و17.1% خلال الفترة 2009-2012، ولا تتعدى حصة الصناعة التحويلية من إجمالي الاستثمارات المنفذة سوى 9.1%
"
وبذلك تتضح النسبة الضئيلة التي تستحوذ عليها الصناعات التحويلية من الاستثمارات المنفذة، حيث بلغت هذه النسبة 9.1%، في حين تصل الاستثمارات في قطاع البترول والغاز قرابة ثلاثة مرات الاستثمارات في الصناعات التحويلية.
وحسب تقديرات الخطة الخمسية العامة للدولة عن الفترة 2007-2008 و2011-2012 فإن عدد العاملين بقطاع الصناعة يصل إلى 2.8 مليون عامل، يشتغلون في قرابة 31.2 ألف مشروع، وتصل أجورهم إلى 43 مليار جنيه (6.2 مليارات دولار) سنوياً.
وتعاني الصناعة المصرية من تحديات تراكمية تمتد منذ عهد محمد علي ومرورًا بعهد عبد الناصر والسادات ومبارك، حيث تم إنشاء العديد من الصناعات، ولكنها في كل مرة كانت تضيف أعباء جديدة تعرقل مسيرة مصر لتكون دولة صناعية على غرار اليابان أو كوريا الجنوبية أو بقية دول جنوب شرق آسيا، وفيما يلي نتناول بعض هذه التحديات.
منذ عهد محمد علي وحتى الآن لم تنشئ البلاد أية خطوط إنتاج خاصة بها، كما تستورد العديد من قطع الغيار، وبالتالي تحولت الصناعة المصرية إلى ورش تجميع، لأن استيراد عُدد وآلات لم يتبعه تطوير لها، أو حتى إعادة إنتاجها في مصر.
ويظهر ذلك من خلال بيانات هيكل الواردات المصرية، حيث تمثل واردات السلع الاستثمارية من عدد وآلات بنداً ثابتاً في الواردات السلعية السنوية، وقد بلغت نسبتها نحو 16.5% من حجم الواردات السلعية في العام المالي 2011-2012، وتقدر قيمة هذه الواردات بنحو 9.7 مليارات دولار في العام نفسه.
ولم تستفد الصناعة المصرية من تجربة دول جنوب شرق آسيا، التي استوردت هذه التكنولوجيا ثم استوعبتها جيداً، وطورت استخدامها ثم أنتجتها وأضافت إليها ابتكاراتها الجديدة، لذلك لم يعد هناك مشكلة في العُدد والآلات، مما أكسب سلع هذه الدول ميزة سعرية مكنتها من التوجه بمنتجاتها للأسواق التصديرية.
بعد دخول مصر فيما يسمى بفترة الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات لم يعد هناك راع للقطاع الصناعي، فكل صناعة بل كل مصنع يعمل في معزل عن ما حوله، وبالتالي لم يكن هناك رباط بين البحث العلمي والصناعة، حتى توظف إمكانيات البحث العلمي لصالح الصناعة أو العكس. ونظرًا لحداثة معظم الصناعات المصرية فلم يكن لدى القطاع الخاص ما يوجه من ميزانيات للإنفاق على البحث العلمي.
ولا يزال الإنفاق على مراكز البحث العلمي قاصرًا على الحكومة. ويعتمد القطاع الخاص كلياً على استيراد التكنولوجيا المستخدمة في مجالات الإنتاج، كما أن هناك غياباً تاماً للترابط بين مخرجات مؤسسات التعليم واحتياجات قطاع الصناعة، ومن هنا لا تتوفر الأيدي العاملة المدربة والماهرة الجاهزة لدخول سوق العمل، وهو ما يكبد الصناعة المصرية الوقت والتكلفة لإعادة تدريب خريجي مؤسسات التعليم عند الاستعانة بهم للعمل في المصانع.
"
الإنفاق على مراكز البحث العلمي ما زال قاصرًا على الحكومة في حين يعتمد القطاع الخاص كلياً على استيراد التكنولوجيا المستخدمة في مجالات الإنتاج، كما أن هناك غيابا تاما للترابط بين مخرجات مؤسسات التعليم واحتياجات قطاع الصناعة
"
وفي ظل هذا الأداء غابت مصر عن الصناعات العالية التكنولوجيا، سواء على الصعيد الإنتاجي أو التصديري، وتعتبر السوق المصرية من الأسواق الكبرى المستهلكة للأجهزة الخاصة بالاتصالات والمعلومات.
عوامل كثيرة أدت إلى ضعف منافسة الصناعة المصرية في السوقين المحلي والخارجي، ويظهر ذلك بوضوح عند الاطلاع على هيكل الصادرات المصرية، حيث تمثل الصادرات البترولية قرابة 48% من الصادرات السلعية لمصر، والبالغة قيمتها نحو 27 مليار دولار.
ومن أبرز العوامل التي أدت إلى ضعف المنافسة للصناعة المحلية توقيع مصر على اتفاقيات منظمة التجارة العالمية في عام 1995، وكذلك الدخول في اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، مما أوجد سيلا من السلع الأرخص سعرًا والأعلى جودة من المنتجات المصرية، لذلك اتجه البعض إلى التجارة بدلاً من الصناعة.
ومن الظلم البين أن توضع الصناعة المصرية في منافسة مع صناعة متطورة في دول الاتحاد الأوروبي، أو صناعات أخرى في دول مثل الصين، وغيرها من الدول التي تخطت حاجز الحماية، وأصبحت لديها قدرة على المنافسة بل الكثير منها أُعد من أجل التصدير.
ومن الأخطاء البالغة التي ارتكبت في حق الصناعة المصرية بعد التوقيع على الاتفاقيات الدولية والإقليمية، أنه لم يستفد من الفترات الانتقالية لهذه الاتفاقيات لتأهيل الصناعة المصرية للمواجهة ومنافسة هذه الصناعات، وقد وصلت هذه الفترات الانتقالية إلى عشر سنوات كما هو في اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، إلا أن صناعات مثل الغزل والنسيج والسيارات والأدوية بمصر وجدت نفسها في مواجهة المنافسة دون تأهيل، بعد أن اعتادت الحماية الكاملة أو شبه الكاملة.
كما كان لانخفاض إنتاجية العامل المصري أبلغ الأثر في ضعف التنافسية للصناعة المصرية، فميزة تدني أجور العمالة المصرية قضت عليها إنتاجيتها المنخفضة.
وتنتشر في مصر ظاهرة ما يطلق عليها مصانع "بير السلع" وهي تلك المصانع التي لا تستوفي شروط الترخيص والإنتاج، سواء من النواحي القانونية أو الفنية، حيث تنتج السلع الغذائية والمنظفات الصناعية، وفي بعض الأحيان منتجات دوائية.
ولا تخضع هذه المصانع لأية ضرائب، كما لا يتمتع العاملون بها بأي نوع من الحماية الاجتماعية أو الصحية، وبالتالي تكون أسعار هذه السلع أرخص بكثير من السلع المنتجة في المصانع المرخصة والنظامية، وهو ما ينقص من أرباح المصانع المرخصة، بل ويكون سبباً في خسارتها.
تعاني الصناعة المصرية من مشكلات التهريب للسلع الأجنبية عبر المنافذ الجمركية، بحيث تخرج السلع المهربة دون جمارك، مما يجعل سعرها أقل بكثير من السلع المحلية، فضلاً عن عوامل تميز لصالح السلع المستوردة مثل الجودة، ومن أكثر القطاعات الصناعية التي تعاني من ظاهرة التهريب قطاعات النسيج والملابس الجاهزة والأدوية.
"
المستثمرون في قطاع الصناعة يطالبون بضرورة تشديد الرقابة على المنافذ الجمركية لمواجهة ظاهرة التهريب، وقد شهدت الظاهرة رواجًا أكبر بعد ثورة 25 يناير بسبب غياب الأمن، وممارسة بعض أعمال العنف ضد رجال الجمارك
"
وعادة ما يتم تهريب سلع استهلاكية ذات ماركات عالمية، سواء كانت هذه السلع أصلية أو مقلدة، إلا أنها تلقى رواجاً في السوق وبخاصة في القطاعات الشبابية، ولذلك يطالب المستثمرون في قطاع الصناعة بضرورة تشديد الرقابة على المنافذ الجمركية لمواجهة ظاهرة التهريب، وشهدت الظاهرة رواجًا أكبر بعد ثورة 25 يناير بسبب غياب الأمن، وممارسة بعض أعمال العنف ضد رجال الجمارك في بعض المنافذ.
لا تزال أمام مصر فرص واعدة لأن تكون دولة صناعية، حيث تمتلك الثروة البشرية ويمكنها إجراء هذا التنسيق بين متطلبات الصناعة والبحث العلمي، وتوفير قاعدة من البيانات لإيجاد شبكة عنقودية بين الصناعات العاملة في مجال واحد.
ولعل في المشروعات المعلن عنها من خلال مشروع تطوير محور قناة السويس الذي يتبناه الرئيس المصري محمد مرسي، وغيرها من المجالات الصناعية والتنموية مجالاً لإحياء الصناعة في مصر.
وقد يؤدي وجود تنسيق بين السياسات المالية والنقدية والتجارية في مصر إلى إحياء مشروعات صناعية توقفت عن الإنتاج لتحل محلها الواردات، في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار وحالة الركود التي يمر بها الاقتصاد المصري.
وبطبيعة الحال لا بد من وجود إستراتيجية للنهوض بالصناعة، واستدراج المحاور المذكورة سابقاً في مضمون هذه الإستراتيجية، وبلا شك فإن الأمر سوف يستغرق بعض الوقت كما حدث في التجارب التنموية الأخرى.