معالجة سطحية
ما بعد الاتفاق
غياب الحماية الاجتماعية
افتقاد الرقابة البرلمانية
خرج مسؤولون مصريون مؤخرا ليعلنوا أنهم تبنّوا برنامجا للإصلاح الاقتصادي يحصلون بمقتضاه على تمويل من صندوق النقد الدولي ومؤسسات أخرى بنحو 21 مليار دولار. وتأتي تصريحات هؤلاء المسؤولين لتعري توجهات وزراء لا يزال بعضهم في السلطة، منهم وزير التخطيط والإصلاح الإداري أشرف العربي الذي صرح غير مرة بأن مصر ليست في حاجة إلى قروض صندوق النقد، وأن الدعم الخليجي يسد حاجة البلاد من التمويل.
وتنتظر الحكومة المصرية أن تحصل على سبعة مليارات دولار سنويا خلال السنوات الثلاث القادمة، من خلال صندوق النقد والبنك الدولي وإصدار سندات دولية، وبيع بعض شركات قطاع الأعمال العام، على أمل أن يمكنها ذلك من تجاوز أزمتها في تعاملاتها الخارجية، التي انعكست تداعياتها السلبية على الاقتصاد المحلي.
من خلال حديث وزير المالية المصري عمرو الجارحي وغيره من المسؤولين المصريين، نجد أن ملامح برنامج الإصلاح الاقتصادي المنتظر عرضه على بعثة صندوق النقد الدولي في الأسبوعين القادمين، تركز على معالجة مظاهر الأزمة الاقتصادية، ولا تهتم بجذورها.
فالتركيز على تخفيض عجز الموازنة، وتقليل الدعم، وتخفيض قيمة الجنيه المصري، وبيع أصول قطاع الأعمال العام، كل ذلك نُفذ في مصر منذ عام 1991-1992، ولم يكن برنامجا ناجعا للاقتصاد المصري، حيث تكررت نفس المشكلات في نهاية التسعينيات ومع بداية الألفية الثالثة، ثم اتسعت حدة الأزمة الاقتصادية في مصر مع نهاية 2008، وزادت حدتها بعد ثورة 25 يناير.
غير أن السياسات الاقتصادية المتبعة بعد الانقلاب العسكري يوم 3 يوليو/تموز 2013، أحدثت تدهورا غير مسبوق في مؤشرات الاقتصاد القومي، كوصول الدين العام إلى ما يزيد عن نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي، أو ارتفاع معدلات التضخم إلى 14%، وزيادة حدة الفقر ليشمل 27.1% من السكان، أو البطالة التي تصل إلى 13.7%، فضلا عن تراجع الصادرات وزيادة الواردات، ليصل العجز في الميزان التجاري إلى 70 مليار دولار، وليسجل ميزان المدفوعات عجزا يصل إلى 3.4 مليارات دولار خلال الشهور التسعة الأولى من العام المالي 2015-2016.
إن جذر المشكلة الاقتصادية في مصر، التي كان يُفترض أن تعالج في إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي نفذ خلال تسعينيات القرن العشرين، هي أن مصر لم تنفذ إصلاحا هيكليا يعالج أزمتها الإنتاجية. فالوصول إلى نتائج مرضية في تخفيض عجز الموازنة، وتنفيذ الإصلاح المالي والنقدي، يظلان إصلاحا هشا بسبب عدم إصلاح أهم قطاعين في أي اقتصاد، وهما قطاعا الزراعة والصناعة.
فمصر فشلت على مدار العقود الماضية في وضع برنامج لتحقيق اكتفائها الذاتي من الغذاء، وبخاصة من السلع الإستراتيجية كالقمح والزيوت والسكر. وتستورد مصر نحو 60% من احتياجاتها من الغذاء سنويا، ويتوقع أن تزيد حدة اعتماد البلاد على الخارج في توفير الغذاء خلال المرحلة المقبلة بسبب أزمة المياه وأمور أخرى.
كما أن الصناعة تعاني من مشكلات معقدة، وبخاصة ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب اعتماد الصناعة المصرية على الخارج بشكل كبير، حيث يتم استيراد الآلات والمعدات واستيراد مستلزمات الإنتاج، وافتقاد مصر لإنتاج التكنولوجيا.
وزاد من حدة مشكلات الصناعة بعد الانقلاب العسكري، ارتفاع تكاليف الطاقة وعدم توفرها بشكل منتظم، وعجز الجهاز المصرفي عن تدبير احتياجات الصناعة من العملة الصعبة للحصول على مستلزمات الإنتاج من الخارج. ونتيجة لذلك تسجل الصناعة التحويلية نموا سالبا بالناتج المحلي الإجمالي على مدار السنوات الثلاث الماضية.
ولا يتضمن برنامج مصر الاقتصادي الذي ستتفاوض بشأنه مع صندوق النقد خلال الأيام القادمة؛ ما يشير إلى تبني إصلاح هيكلي لقطاعي الزراعة والصناعة، ولذلك نستطيع القول إن هذا البرنامج ولد ميتا.
يكثر حديث المسؤولين المصريين بصفة عامة عن المشكلات الاقتصادية في إطارها الزمني الآني، وتغيب بشكل عام برامج ما بعد المعالجة الوقتية. ففي قضية برنامج استهداف الحصول على قروض بنحو 21 مليار دولار على مدار ثلاث سنوات عبر اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لم تعرض الحكومة ماذا ستفعل في معالجة ما سيترتب على هذا الاتفاق من ديون والتزامات تتعلق بالدين الخارجي.
فالدين الخارجي لمصر سيصل إلى 75 مليار دولار بعد ثلاث سنوات، بفرض أن مصر لن تقترض من مصادر أخرى خلال هذه الفترة، وبدون أن يُدرج أي التزام يتعلق بما قيل عن القرض الروسي لتمويل محطات الطاقة النووية، أو الوفاء بالتزامات مصر الخاصة بالودائع الخليجية التي حصلت عليها لدعم احتياطي النقد الأجنبي على مدار السنوات الثلاث الماضية.
كما لم تعرض الحكومة برنامجها التمويلي مستقبلا لاستمرار برنامج الإصلاح الاقتصادي بعد ثلاث سنوات: هل ستدخل في برنامج جديد مع صندوق النقد، أم سيتوفر لها مصادر ذاتية؟ وما هي هذه المصادر؟ وما قيمتها؟
الأوضاع الاجتماعية السلبية الناتجة عن غياب سياسة اقتصادية رشيدة في مصر بعد الانقلاب العسكري، لا تخفى على أحد. فكما ذكرنا، ترتفع معدلات الفقر والبطالة. وفي ظل تطبيق إجراءات تتعلق بخفض الدعم وزيادة الضرائب، كما هو معلن من قبل الحكومة عن فرض ضريبة القيمة المضافة، يُتوقع أن تنضم الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة التي تتسع رقعتها يوما بعد يوم.
ويستلزم الأمر أن تعلن الحكومة عن برنامجها الخاص بالحماية الاجتماعية لتلافي الآثار الاجتماعية السلبية لاتفاقها مع صندوق النقد الدولي. فتجربة مصر في التسعينيات كانت شديدة السلبية، حيث اقتصرت على إنشاء الصندوق الاجتماعي للتنمية الذي تذهب الدراسات الخاصة بتقويم أدائه إلى غياب دوره، وتوضح أنه تحول إلى مجرد مؤسسة لإعادة تدوير القروض من قبل مستفيديه، وأن قروضه وجهت إلى غير أهدافها، فلم يكن له دور في زيادة عدد أو إنتاج المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، كما غاب دوره في استيعاب الخارجين من الوظائف الحكومية ضمن إطار ما عرف بالمعاش المبكر، فضلا عن فشله في استيعاب أعداد مقبولة من الداخلين الجدد إلى سوق العمل.
فالشفافية تقتضي أن يكون برنامج الحماية الاجتماعية للحكومة معلنا ومحدد المعالم، حتى لا يترك الفقراء لتدبير احتياجاتهم بأنفسهم بعيدا عن أي التزام من قبل الدولة، حيث يؤدي انصراف الحكومة عن التزامها تجاه الفقراء إلى دفعهم نحو الاقتصاد الأسود (تجارة السلاح، وتجارة المخدرات، والدعارة، والرشوة، والاتجار بالبشر)، حيث يلاحظ أن هذا النشاط يشهد ازدهارا في مصر على مدار السنوات الثلاث الماضية.
ثمة شواهد على أن مجلس النواب الحالي يفتقر إلى ممارسة دوره الرقابي المتعلق بالجوانب المالية والاقتصادية، ومنها مثلا تهديد رئيس مجلس النواب بإحالة من ينتقد سياسة الحكومة النقدية إلى لجنة القيم، وكذلك تمرير الموازنة العامة للدولة رغم مخالفة ما نص عليه الدستور بشأن مخصصات قطاعي التعليم والصحة، ومؤخرا منعُ رئيس المجلس لأحد الأعضاء من الحديث عن جمع بعض العسكريين بين معاش القوات المسلحة وحصولهم على مرتبات كبيرة من وظائفهم المدنية التي تولوها بعد خروجهم من الخدمة العسكرية.
ولذلك من الطبيعي أن يغيب دور مجلس النواب في ظل هذه الشواهد عن مراقبة الحكومة، فضلا عن مناقشتها بشأن البرنامج الاقتصادي الذي سيقدم لصندوق النقد الدولي، وتبني آليات لمراقبة ومحاسبة الحكومة على ما سيترتب على هذا البرنامج من التزامات مالية تتعلق بالدين العام.
قد تتحسن بعض المؤشرات النقدية والمالية في مصر بعد التطبيق الكامل لبرنامجها المتفق عليه مع صندوق النقد كما حدث من قبل في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، ولكن تبقى مشكلة البلاد الاقتصادية قائمة، لكونها تستهلك أكثر مما تنتج، وتستورد أكثر مما تصدّر، وتدخر أقل مما يتطلبه الاستثمار