انعدام الثقة بمناخ الأعمال
هجرة العقول والكفاءات
تقوية اقتصاد الظل
تضرر الفقراء والمرضى
تراجع تحويلات المغتربين
الخلاف السياسي له حدود، ولكنه إذا تجاوز الحدود ووصل إلى مرحلة الصراع والإقصاء فإننا أمام ظاهرة سلبية تهدد النسيج الاجتماعي، ولن تكون أبعادها قاصرة على استبعاد الخصوم السياسيين، ولكن النتيجة ستكون العبث بمقدرات الدولة، ومن أبرز هذه النتائج السلبية إهدار مقدرات المجتمع الاقتصادية.
ولا يعني ذلك أن الأثر السلبي الوحيد للتجاوزات السياسية هو الجانب الاقتصادي، ولكن هناك جوانب أخرى سياسية وثقافية واجتماعية تجعل انعدام الثقة بين الفرقاء السياسيين هو الأصل، وبالتالي يكون التفكير في البحث عن مجتمع آخر يراود الكثيرين ممن يستهدفهم الاغتيال أو التكفير السياسي.
واقع مصر بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز الماضي مليء بهذه الممارسات السياسية التي تحض على الكراهية، وخاصة ضد فصيل سياسي هو التيار الإسلامي بشكل عام، وجماعة الإخوان المسلمين بشكل خاص، مثل فتاوى تطبيق حد الحرابة على المشاركين في المظاهرات المناهضة للانقلاب، أو مصادرة أموال الإخوان لتعويض ما أصاب منشآت الدولة من تلف، أو مطالب بعض السياسيين -مثل الصحفي مصطفى بكري- باقتحام بيوت أعضاء جماعة الإخوان.
كما أتت ممارسات أخرى في شكل قرارات للجنة تم تشكيلها بناء على حكم قضائي أولي بتجميد أموال نحو ثمانمائة فرد ومؤسسة اقتصادية، وسبق هذا القرار تجميد أموال ما يزيد على ألف جمعية خيرية، تعمل في مجالات متعددة مثل مساعدة الفقراء وعلاجهم، وهو الأمر الذي مسّ بعض الجمعيات التي لا علاقة لها بجماعة الإخوان المسلمين، أو التيار الإسلامي ككل مثل بنك الطعام.
هذا المناخ المضطرب لا يؤدي إلى توجيه ضربات تقتصر أضرارها على تيار سياسي بعينه، ولكنها تقود إلى خلق مناخ جديد قائم على تفكيك أواصر العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع المصري، كما سيكون لتمادى هذه الممارسات مخاطر اقتصادية يمكن ذكر بعضها:
لم تعد المجتمعات مغلقة على نفسها في ظل عصرنا الحالي، ولكن العلاقات الاقتصادية الدولية تجعل المهتمين بالشأن الاقتصادي المصري يرصدون المناخ السياسي والاقتصادي العام، ويقيمون مدى ملاءمته لممارسة الأنشطة الاقتصادية من لدن مستثمرين أجانب.
ومثل هذه الإجراءات تجعل الكثيرين يتخوفون من المجيء للسوق المصرية، وبخاصة من الدول العربية، خشية أن تنظر إليهم الحكومة المصرية في وقت ما على أنهم ينتمون أو يدعمون جماعة الإخوان المسلمين، لا سيما أن التدين أصبح سمة عامة لا تقتصر على جماعة الإخوان المسلمين وحدها.
وما يدلل على هذه المخاوف لدى المستثمرين الأفراد ما نشر في وسائل الإعلام من مطالبة رجال أعمال خليجيين بضمانات ينص عليها في قانون الاستثمار لحماية استثماراتهم، وإن كان هذا المطلب جاء في سياق ما صدر من أحكام قضائية تخص شركات عامة تم خصخصتها في عهد حسني مبارك لفائدة مستثمرين خليجيين، وقد ألغت الأحكام القضائية بعض صفقات الخصخصة.
من خلال المتابعات الخاصة بالمعتقلين من المشاركين في أنشطة مناهضة للانقلاب، نجد أن الطلاب والشباب يمثلون جانباً لا يستهان به، فضلًا عن وجود نسبة كبيرة من المهنيين من الأطباء والمهندسين والمحامين والمدرسين وأساتذة الجامعات.
ومن الطبيعي أن تكون النتيجة في الأجل القصير حرمان المجتمع من مساهمة هذه الفئات، وفي الأجلين المتوسط والطويل فإن هذه الشرائح ستفكر بعد خروجها من السجون والمعتقلات في الهجرة للخارج، كما حدث في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
ولن تكون مسألة التفكير في الهجرة قاصرة على المعتقلين أو المسجونين، بل ستكون الفكرة مطروحة على شريحة لا بأس بها من خريجي الجامعات والمهنيين من الإسلاميين على وجه الخصوص، لما يرونه من انغلاق الأفق السياسي بمصر، وبما يتوقعونه من مضايقات في حياتهم الخاصة، من حيث إدراجهم على قائمة المنبوذين، وما يترتب عليه من حرمان من الترقي الإداري أو من مزايا مادية وعلمية قد تتاح لغيرهم ويحرمون منها فقط بدعوى انتمائهم لجماعة الإخوان أو التيار الإسلامي.
في ظل مناخ موسوم بإمكانية مصادرة أو تجميد الأموال، سوف يفكر كل من يمكن تصنيفه على أنه إسلامي في تجنب المشاركة في الاقتصاد الرسمي بسبب إمكانية رصد نشاطه ومصادرة أمواله، وبالتالي ستكون أموال هذه الفئة بعيدة عن المؤسسات المالية الرسمية مثل البنوك أو شركات التأمين أو البورصة.
ومن هنا تضيع على الدولة فرص عدة، منها الضرائب التي يمكن أن تجنيها من هذه الفئات الموجودة بالمجتمع، لا سيما أن مصر تعاني عجزا حادا في الموازنة، ويندرج الجزء الأكبر من نشاطها الاقتصادي تحت مظلة الأنشطة غير الرسمية.
ومن المسلم به أن اتساع رقعة الاقتصاد غير الرسمي له مضار كثيرة، ليس ضياع حق الدولة في تحصيل الضرائب فقط، ولكنه كذلك لاعتبارات الجودة والالتزام بشروط الصحة والسلامة، وضمان حقوق العمال في العمل اللائق والأجر العادل.
وإذا كان النشاط الاقتصادي يقوم على العلاقات الجيدة سواء بين الأفراد بعضهم البعض، أو بين الأفراد والمؤسسات، فإنه هذا الأمر سيتراجع في ظل الظروف الحالية في مصر ويحل الشك مكان الثقة، فقد يتجرأ البعض على عدم الوفاء بالتزاماته المالية تجاه الآخر بدعوى أن الدولة غاضبة عليه بسبب انتمائه للإخوان، أو قد يستخدم البعض الوشاية لدى الأجهزة الأمنية لتصفية المنافسين الاقتصاديين، وبخاصة أنه طرحت أرقام الهاتف للعامة للتبليغ عن أعضاء جماعة الإخوان.
رصدت وسائل الإعلام المصرية حالة الخوف لدى الفقراء الذين يستفيدون من خدمات الجمعيات الخيرية التي جمدت السلطات أموالها بحجة انتمائها أو دعمها لجماعة الإخوان، لا سيما المتضررين من مرضى الفشل الكلوي أو الأطفال الخُدج وغيرهم من الأيتام والأرامل.
وتكمن خطورة هذه الخطوة في أن المتبرعين لهذه الجمعيات قد يتوقفون عن دعمها مخافة أن يتم العبث بهذه التبرعات من قبل المشرفين الجدد على الجمعيات والذين عينتهم حكومة الانقلاب، وبالتالي، قد يختار المتبرعون التصرف في صدقاتهم بشكل فردي، وهو ما يؤدي إلى عدم العدالة في توزيع هذه الصدقات، حيث كانت هذه الجمعيات تمتلك قاعدة معلومات ولديها مؤسسات ذات خبرة في مساعدة الفقراء وتقديم الخدمات لهم على مدى سنوات طويلة.
أما الأسوأ فهو أن يتوقف المتبرعون عن الدعم بشكل كامل، وهنا يزيد العبء على الدولة التي ظلت على مدار العقود الماضية تتناسى مشكلات هذه الشريحة بحجة قيام الجمعيات الخيرية بهذا الواجب.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن جمهور المتبرعين لهذه الجمعيات في أغلبهم من المتدينين، والذين ستتأثر أنشطتهم الاقتصادية خلال الفترة المقبلة، إما لتخوفهم من توسعة أنشطتهم أو تجميدها في الوقت الحالي إلى حين اتضاح الرؤية فيما يتعلق بسلوك الدولة تجاههم.
تفيد القراءة الأولية لبيانات البنك المركزي المصري عن الشهور الثلاثة الأولى من عمر الانقلاب (يوليو/تموز إلى سبتمبر/أيلول 2013) بتراجع تحويلات العاملين في الخارج بنحو 820 مليون دولار مقارنة بالفترة نفسها من عام 2012.
وقد يرجع هذا الأمر إلى تخوف العاملين في الخارج، وخاصة من المتدينين من مصادرة أموالهم، ولذلك فإنهم يحولون إلى ذويهم ما يرونه ضرورياً، وقد يدفعهم خطاب الكراهية الذي يعم العديد من مؤسسات الدولة المصرية إلى عدم استثمار أموالهم في الداخل، أو على الأقل عدم التفكير في توسعة ما لديهم من أنشطة اقتصادية مخافة المصادرة.
ويعد هذا الأمر من السلبيات التي تُلحق أضرارا بالاقتصاد المصري في الأجل القصير، بسبب اعتماد البلاد على تحويلات العاملين كأحد أهم مصادر النقد الأجنبي منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، كما يؤثر هذا التراجع سلباً على الاحتياطي من النقد الأجنبي، ومن ثمة عدم استقرار سوق صرف العملات الأجنبية أمام الجنيه.