من الصعب الحديث الآن عن القضاء على الفقر في مصر عن أي وقت مضى، فلا الدولة لديها برنامج تنموي يمكن أن يحقق حلم القضاء على الفقر، ولا القطاع الخاص لديه فرصة للنهوض بالاقتصاد وقيادة التنمية بعد أن أمسك الجيش بمفاصل الاقتصاد، وحتى الحلقة الأضعف في القضاء على الفقر وهي المجتمع الأهلي تم إخضاعه بشكل كبير للمؤسسة الأمنية، حتى تقلصت أعماله بشكل كبير.
أوضاع الفقراء في مصر لا تغيب عن أي مواطن معني بهموم وقضايا وطنه، لما للفقر من أبعاد إنسانية، وتداعيات سلبية على الصعيد السياسي والاجتماعي، لكن الأمم المتحدة تذكرنا بقضية الفقر في مصر، عبر احتفائها باليوم الدولي للقضاء على الفقر، في 17 أكتوبر من كل عام، وكان موضوع 2019 منصبًا على "العمل معًا لتمكين الأطفال وأسرهم ومجتمعاتهم في سبيل القضاء على الفقر".
قد تكون بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء في يوليو 2019 غير معبرة بشكل دقيق عن واقع الفقر في مصر، لكنها على كل حال قد تكون الأقرب إليه، حيث أعلن الجهاز عن ارتفاع معدل الفقر إلى 32.7% من السكان، وذلك دون الحديث عن شريحة مهمة هي المعرضة للسقوط في الفقر، نتيجة السياسات الاقتصادية والمالية التي تنفذها الحكومة.
القضاء على الفقر يتطلب التركيز على سياسات اقتصادية واجتماعية تعمل على تحسين حياة الفقراء، من خلال زيادة فرصتهم في الحصول على الدخل وتوزيع الثروة لصالحهم، عبر سياسة ضريبية تتسم بوجود الضرائب التصاعدية، والتركيز على الإعفاء الضريبي على السلع التي يستهلكها الفقراء بكميات كبيرة، أو تميزهم من حيث أسعار الخدمات العامة، مثل المياه والكهرباء والمواصلات.
لكن حكومة السيسي، تعمل على عكس ذلك تمامًا، فلا وجود للضرائب التصاعدية، كما أن برنامج صندوق النقد الدولي الذي دخل حيز التنفيذ في نوفمبر 2016، كبل الفقراء، وزاد من أعبائهم المعيشية، وكرس لزيادة الفقر، وساوى بين الأغنياء والفقراء في الحصول على الخدمات العامة.
فضلًا عن عدم تبني سياسة تعليمية تنهض باليد العاملة من الفقراء، حتى يؤدي تحسين أوضاعهم التعليمية إلى حراك اجتماعي إيجابي، لكن الملاحظ أن ممارسات حكومة السيسي، ضد النهوض بالتعليم، بل تكرس لسوء مخرجات مؤسسات التعليم العام، وتتجه الحكومة لتبني برامج تعليمية ذات رسوم عالية، كما حدث في توظيف المنحة اليابانية، التي كانت تستهدف شريحة الفقر بتعليم مجاني، فأصر السيسي بشخصه على أن تكون هذه المدارس برسوم لا تناسب أبدًا شريحة الفقراء.
منذ 2015، شرعت الحكومة في إضافة برنامجين لمنظومة الحماية الاجتماعية، وهما تكافل وكرامة، بجوار معاش الضمان الاجتماعي. لكن تكافل وكرامة تم تنفيذهما من خلال قرض من البنك الدولي على دفعتين، الأول 400 مليون دولار في 2015، والثاني 500 مليون دولار في 2019.
في مسألة سعر الجنيه المصري
والغريب أنه قد يفهم تعويل برنامج الحماية الاجتماعية عبر الديون مع إقدام الحكومة على تنفيذ برنامجها مع صندوق النقد، نظرًا لسياسته التي تزيد معدلات الفقر، ولكن أن يستمر تمويل برامج الحماية الاجتماعية بعد الانتهاء من تنفيذ البرنامج بالديون، فهذا هو الأمر المستغرب!!
فالمفترض أن برنامج الصندوق أدى إلى تحسين أوضاع مصر الاقتصادية والتنموية، وأن اقتصادها تعافى، وأن فرص العمل زادت، وبالتالي أن تتوفر للحكومة موارد ذاتية تمكنها من الإنفاق على برامج الحماية الاجتماعية لمواطنيها، فضلًا عن أن تكون قادرة على تخفيف حدة الفقر، وتبنّي برنامج لمكافحته.
وللأسف فبرامج تكافل وكرامة ومعاش الضمان الاجتماعي، لا تزال تعمل في إطار الحد الأدنى للفقر، وهو 482 جنيهًا أي أقل من 30 دولار، وهو معدل يصلح للفرد كدخل شهري، ومع تواضع المبلغ الشديد لاحتياجات الفرد، نجد أن تكافل وكرامة تصرف المبلغ لأسرة كاملة، يشترط لحصولها على هذا الدعم أن ترسل أبنائها للمدارس للتعليم، وهو عبء إضافي، قد لا يستشعره متخذو القرار في مصر.
إن الانصراف في أدنى درجاته، أن يعي المسؤولون بمصر أن سياساتهم الاقتصادية زادت من حدة الفقر، وأن بيانات جهاز الإحصاء ترى أن الحد الأدنى للفقر 735 جنيهًا، وأن المبلغ يخص الفرد الواحد، بينما مستلزمات الأسرة، تقضي أن يتضاعف هذا المبلغ حسب عدد أفرادها.
إذا كانت الأمم المتحدة، قد خصت احتفائيتها هذا العام لتمكين الأطفال وأسرهم من القضاء على الفقر، فإن أطفال مصر أول المتضررين من ارتفاع معدلات الفقر، والتي أعلن عنها يوليو 2014، بانضمام نحو 4.7 ملايين فقير إلى شريحة الفقراء.
وفقر الأطفال في أي مكان، هو نتيجة طبيعية لفقر الأسر، وفي عام 2017 صدر تقرير عن منظمة الـ"إسكوا" وجهات أخرى بعنوان الفقر متعدد الأبعاد في المنطقة العربية، وخلص التقرير الذي تضمن دراسة 10 دول عربية من بينها مصر، إلى أن 41% من الأسر العربية تعاني من الفقر متعدد الأبعاد، وأن الفقر متعدد الأبعاد بين أطفال هذه الدول العشر حوالي 44%.
ولا ينتظر من أطفال ولدوا في رحم الفقر أن يكونوا أسوياء، فهم فقدوا حظهم من التعليم والصحة والتدريب اللازم للتعامل مع الحياة بشكل إيجابي.
ونحن نتحدث عن فقر الأطفال، لا يفوتنا أن مصر لديها ملف شديد الخطورة يتعلق بأطفال الشوارع، وتتزايد أعدادهم بشكل كبير منذ سنوات، في ظل غياب أي منظومة أو برنامج، يعمل على احتوائهم، أو إعادة تأهيلهم للاندماج في المجتمع.
فكل ما يحدث مع هذه الشريحة الخطرة في المجتمع، أن تسلط عليهم أضواء الكاميرات لتصوير فيلم عن حياتهم، أو كلما ارتكبت جريمة تهز المجتمع، وكان هؤلاء الأطفال طرفاً فيها.
من أهم سمات حكومات ما بعد الانقلاب العسكري، وقيادة السيسي، أنه لا تقدم برامج لمعالجة القضايا الجادة والملحة في المجتمع، وعلى رأسها مكافحة الفقر، أو القضاء عليه، فالنظام معني بالوجاهة الإعلامية، التي لم يعد يصدقها جانب كبير من المجتمع.
فعلى سبيل المثال مؤتمرات الشباب التي تعقد في المنتجعات السياحية، لا طائل منها سوى الإنفاق غير الرشيد، بينما أطفال الشوارع وهم كلهم من الفقراء، حيث لا مأوى لهم سوى الحدائق العامة، أو أسفل الكباري، أو بعض الخنادق التي يدبرونها في أماكن مشبوهة لتعاطي المخدرات وغيرها من السلوكيات غير الأخلاقية.
قد يكون من المناسب في اليوم العالمي للقضاء على الفقر، أن يطالب المصريون السيسي بتقديم برنامج لمكافحة الفقر، يمكن من خلاله أن يتعهد بتقليل عدد الفقراء خلال فترة زمنية يلتزم بها، أو برنامج يعالج فيه مشكلة أطفال الشوارع، فمن حق هؤلاء الأطفال أن ينعموا بحياة أفضل، فهم جزء من ثروة المجتمع البشرية، وتضييعهم جريمة في حق المجتمع.
لكن هذه الالتزامات تكون مجدية في ظل مجتمع ينعم بالديمقراطية، ويمكن محاسبة الحكومة على تقصيرها في كافة البرامج، وبخاصة إذا كانت تتعلق بالفقر وانتشاره، الذي يقضي على أحلام الشعوب، ويهدد مستقبلها. أما في عهد السيسي، فمن المنتظر أن يزداد فقر المصريين، كما حدث على مدار السنوات الست الماضية.