حرصت الإدارة الاقتصادية في مصر على تصدير صورة سلبية لأدائها، فالسيسي صاحب نظرية مشروعات بدون دراسات جدوى، يتبعه محافظ للبنك المركزي يصنع الأزمات للاقتصاد المصري، عبر تصريحاته للإعلام، وتُظهر المؤشرات الفعلية فشله في تدبير أمور السياسة النقدية، والتنسيق مع باقي مكونات السياسات الاقتصادية.
فمؤخرًا صرح طارق عامر محافظ البنك المركزي المصري لوكالة بلومبرغ بأن سعر صرف الجنيه سوف يشهد تحركات كبيرة خلال المرحلة القادمة، والتصريح من حيث المضمون غير مسبوق، فقد توقعته التقارير الاقتصادية الصادرة عن مؤسسات الائتمان، في بداية عام 2018، بناء على الالتزامات المالية لمصر من سداد ديون خارجية ورد ودائع لدول الخليج وغيرها.
ولكن خطورة التصريح أنه يأتي من صانع السياسة النقدية، لأنه بذلك يصدر رسالة سلبية للمتعاملين بالدولار في مصر، لكي يحتفظوا به خلال المرحلة المقبلة، ليستفيدوا من التحركات الكبيرة لسعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية. ولتستعد سوق المضاربة على الدولار بمصر من الآن، فقد أعلن محافظ البنك المركزي بدء السباق. وثم شبهة فساد في تصريح عامر، بحيث يتجه كبار المسؤولين ورجال الأعمال بل وصغار المدخرين إلى الدولار، مخافة التخفيضات المرتقبة في قيمة الجنيه.
ولا تعني تصريحات عامر، سوى انتظار السوق المصري لموجات تضخمية، مع انخفاض قيمة الجنيه، ويتطلب ذلك من حكومة مصطفى مدبولي تقديم حزمة من الإجراءات المتعلقة بالحماية الاجتماعية، ولكن هذه الحكومة غير معنية بالفقراء وحمايتهم، فما يشغلها تدبير قروض القطار الكهربائي، والنهر الأخضر، وأطول ناطحات السحاب في افريقيا بالعاصمة الإدارية الجديدة.
فعامر أرد أن يعلن عن توافقه مع سياسة صندوق النقد الدولي، الذي لاحظ مؤخرًا أن هناك ثمة تدخل من قبل المركزي المصري وبنوك القطاع العام في سعر الصرف، ومحاولات تثبيته، وهذا أحد الأمور التي أدت إلى امتناع الصندوق عن صرف الشريحة الخامسة من القرض لمصر بنحو ملياري دولار في ديسمبر الماضي.
تأكد للجميع الآن، بأن احتياطي مصر من النقد الأجنبي الذي بلغ 44.5 مليار دولار في نهاية نوفمبر 2018، هو احتياطي هش لا يعتمد على موارد ذاتية، وإنما غالبيته من قروض خارجية متوسطة وقصيرة الأجل، وهو ما أوجد حالة من الارتباك حينما امتنع صندوق النقد عن تقديم الشريحة الخامسة من قرض الـ 12 مليار دولار، وبذلك تراجع الاحتياطي نهاية ديسمبر 2018 بنحو ملياري دولار.
ومارست مصر هوايتها مع دول الخليج الدائنة، حيث أعلن مؤخرًا بأن مصر أعادت هيكلة ديون مستحقة عليها مطلع 2019 بنحو 6 مليارات و200 مليون دولار للسعودية ودول أخرى، بسعر فائدة 3%. وفي نفس الوقت تستعد مصر لإصدار سندات بالدولار في السوق الدولية بنحو 10 مليارات دولار، لتستمر دوامة تدوير الديون.
أما المظهر الثاني لفشل سياسات عامر، فهو حديثه عن الهزة التي أحدثها خروج استثمارات الأجانب في الدين العام المحلي، وهي أموال ساخنة، لم يكن لتعتمد عليها سياسة اقتصادية رشيدة، فقد خرج من مصر 14 مليار دولار من تلك الاستثمارات خلال الفترة من أبريل – ديسمبر 2018. وعودة هذه الأموال مرهونة بشرطين، الأول أن يعود التزام البنك المركزي بأن يؤمن توفير النقد الأجنبي لها عند رغبتها في الخروج من السوق المصري، والثاني هو استمرار سعر الفائدة عند معدلات مرتفعة.
وكلا الأمرين يجعل مصر تتجرع المر، فضمانها لتوفير نقد أجنبي لمن يرغب من الأجانب، لا يتفق والفجوة في موارد مصر من النقد الأجنبي. كما أن استمرار سعر الفائدة مرتفعًا عند حدود 18% غير مقبول في ظل انخفاض معدل التضخم عند قرابة 12%، ومن جانب آخر فارتفاع سعر الفائدة يكبد الموازنة العامة أعباء كبيرة للديون المحلية، فضلًا عن ارتفاع تكلفة التمويل للمشروعات الإنتاجية والخدمية، وهو ما يعني ضعف المنافسة للمنتجات المصرية في السوقين المحلي والخارجي.
ولم يكن فشل طارق عامر وباقي المسئولين عن ملفات السياسة الاقتصادية في مصر بالأمر غير المتوقع، أو الصعب حدوثه، فالتوجهات كانت واضحة من البداية. تسرع غير مدروس في تحرير سعر الصرف، وكذلك جرأة في التوسع في الاستدانة، دون وجود توظيف اقتصادي سليم يرتبط بتوجيه هذه الديون لصالح مشروعات إنتاجية، وكان كل همهم مجرد دعم احتياطي النقد الأجنبي، أو سد عجز الموازنة.
الرجوع لبيانات البنك المركزي المصري بخصوص ميزان المدفوعات للعام المالي 2017/2018، تبين أن الواردات السلعية قفزت إلى 63.1 مليار دولار، بعد أن كانت في العام السابق عليه بحدود 59 مليار دولار، وهو ما يعني أن كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لتقييد الاستيراد باءت بالفشل، وأن مصر لا تنتج، وأنها لا تزال تعتمد على الخارج في تدبير احتياجاتها الأساسية.
أما أرقام الصادرات السلعية التي وصلت إلى 25.8 مليار دولار فمنها نحو 8 مليارات صادرات بترولية، وأن الصادرات السلعية غير البترولية بحدود 17.8 مليار دولار فقط، وهذا دليل على أن السياسات التي تتحدث عن زيادة قدرة مصر التصديرية، بلا نتائج ملموسة.
كما يظهر ميزان المدفوعات أيضًا أن الأجانب خرجوا بأرباح نتيجة استثماراتهم المباشرة وغير المباشرة في مصر بنحو 7 مليارات و100 مليون دولار في يونيو 2018، مقابل 5 مليارات في يونيو 2017، وهو ما يعني استمرار تدفق النقد الأجنبي للخارج. ولكن في ظل تخلي المركزي عن الالتزام بتحويل أموال المستثمرين للأجانب، فسيضطر الأجانب للتعامل مع السوق الحرة، بما فيها السوق السوداء المتوقع اتساع رقعتها بعد تصريح عامر، وذلك من أجل تدبير النقد الأجنبي لخروج أرباحهم أو أجزاء من استثماراتهم لأسواق أخرى.