الرئيسية / مصر / العشوائية المالية والتوظيف السياسي للأموال

العشوائية المالية والتوظيف السياسي للأموال

  • بقلم: أ. عبد الحافظ الصاوي
  • 29-05-2023
  • 98
العشوائية المالية والتوظيف السياسي للأموال
  • المصدر: العربي الجديد

اهتمت الدولة الحديثة بالوضع المالي، فأنشأت البرلمانات، من أجل التشريعات المالية، ووضع الضوابط اللازمة للموازنات العامة، وجعلت من أهم وظائف البرلمانات، بعد اعتماد الميزانية، مراقبة الحكومات، واعتماد الحسابات الختامية للموازنات.
ليس هذا فحسب، بل هناك رقابة من قبل المجتمع المدني، تعتني بمراقبة الحكومات في وضعها المالي، جمعًا وإنفاقًا، وثمة مقولة تحكي عن المجتمع الإنكليزي "لا ضرائب بدون تمثيل برلماني"، ومن هنا وجب أن تكون قرارات الحكومات المالية، منضبطة، ولا تسرف في جمع الإيرادات، أو زيادة النفقات.
لكننا وجدنا العالم مؤخرًا يعاني من أزمة مديونية كبيرة زادت عن 300 تريليون دولار، وهذا الرقم يفوق قيمة الناتج المحلي العالمي بمراحل، ونالت المديونية القطاع العائلي، ومجتمع الأعمال، وزاد الطين بلة، فيما يتعلق بالحكومات.
ومؤخرًا يترقب العالم، ما يحدث في أميركا، من أزمة رفع سقف الدين، ولا تعيش أميركا المشكلة وحدها، بل هناك حالة مصر التي أصبحت الديون العامة بها، هي المحور الذي يدور في فلكه الاقتصاد القومي، فنفقات الفوائد والأقساط الخاصة بالدين تجاوزت التريليون جنيه، وبما يمثل نسبة كبيرة من قيمة استخدامات الموازنة العامة، وما يعنيه ذلك من غياب مشروع للتنمية، وتفاقم ترهل خدمات الصحة والتعليم وقلة فرص العمل.
أيضًا أدت عشوائية الوضع المالي في لبنان إلى الوصول لوضع يمكن أن نسميه، "انهيار الدولة"، فالليرة اللبنانية تراجعت بمعدلات مخيفة أمام العملات الأجنبية، بشكل أدى إلى "دولرة" الاقتصاد بنسبة كبيرة، كما أدى إلى تعثر البلاد في سداد التزاماتها الخارجية، فيما يتعلق بالسندات الدولية.
ولم يكن الوضع أحسن حالًا في تونس والعراق، ففي تونس هناك دولة مأزومة ماليًا، يتأجل ملف تفاوضها مع صندوق النقد بشكل مستمر، وثمة معاناة للمواطنين على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، مع غياب دولة المؤسسات، وغياب الأمل في إصلاح اقتصادي ينتشل البلاد من الأزمة الاقتصادية.

وفي العراق، البلد النفطي، تمثل العشوائية المالية، واحدة من أبرز المشكلات، فمع انخفاض أسعار النفط، تهرع الحكومة إلى إصدار السندات الدولية، لزيادة المديونية العامة، دون وجود إدارة حقيقية للوضع المالي، لإحداث حالة توازن لاقتصاد البلاد، ليتكيف مع تقلبات سعر النفط بالسوق الدولية، وليحقق المعادلة الصعبة بالانتقال إلى اقتصاد متنوع، تمتلك البلاد الكثير من مقوماته.

تجاهل قواعد التمويل

هناك قواعد في مجال التمويل تمثل بديهيات، منها أنه ينبغي أن يكون اللجوء للديون في أضيق الحدود، وأن يأتي توظيف الديون لخدمات مشروعات استثمارية، يمكنها أن تقوم بسداد التزاماتها تجاه الدين، كما ينبغي أن يكون هناك حالة من التوازن في التمويل بالنسبة لطبيعة الدين والالتزام الزمني تجاهه، فالديون قصيرة الأجل لا تصلح لمشروعات ذات عائد متوسط أو طويل الأجل.

أيضا من القواعد المعلومة في التمويل، أنه لا ينبغي أن تزيد المصروفات العامة، دون أن يكون لها غطاء من إيرادات حقيقية، سواء كانت تتعلق بموارد داخلية أو خارجية، ولا يتم اللجوء للقروض الخارجية، إلا في حالة اليقين بالقدرة على سدادها.

وبالتالي فالعشوائية المالية، هي حالة من التصرف تجاه المال العام، أو الخاص، دون مراعاة قواعد التمويل، أو مخالفة القدرات المالية المقدرة للكيان العام أو الخاص، والتصرف بما يخالف معايير الالتزامات المالية، التي يفرضها الالتزام بالديون، والمقدرات الإنتاجية والخدمية للدولة أو للمؤسسة.

العشوائية وغياب الرقابة

الدخول في مشروعات غير مدروسة العواقب، على الصعيد السياسي، أو غياب دراسات الجدوى للمشروعات الاقتصادية. لقد مثلت حالة أميركا منذ مطلع الألفية الثالثة، حالة من غياب دراسة العواقب لزيادة الإنفاق على الحروب في أفغانستان والعراق، وكذلك مظاهر التسليح الأخرى.

وأيضًا كان للسياسات الاقتصادية لبعض الحكومات الأميركية، من إعفاءات ضريبية، غير مدروسة عواقبها على المالية العامة، أثرها في تفاقم أزمة الديون للحكومة المركزية، والتي زادت عن 31.5 تريليون دولار، نحو ثلثها ديون خارجية.

كما أن غياب دور البرلمانات في الرقابة على الموازنة، في كل من مصر وتونس ولبنان والعراق، ساهم بشكل كبير في تجاوز الحكومات للحدود الآمنة، للأوضاع المالية، سواء بالتوظيف غير الجيد لما هو متاح، أو استخدام القروض في مشروعات بلا عائد اقتصادي مجدٍ.

أيضًا التوظيف السياسي للمال العام، من أهم أسباب العشوائية المالية، سواء على الصعيد الداخلي، بتوجيه الإنفاق لصالح فئات معينة، أو لدعم توجهات حزبية، أو لتوظيف المؤسسات الإعلامية لصالح النظام، أو على الصعيد الخارجي لشراء شرعيات إقليمية ودولية، عبر صفقات تجارية مع دول معينة، أو شراء أسلحة، قد لا تكون الدولة بحاجة إليها.

وتعد حالة شراء الشرعية الدولية متحققة بشكل كبير في الحالة المصرية، عبر العديد من التعاقدات مع ألمانيا في المجال الاقتصادي، وكذلك مع العديد من الدول عبر صفقات السلاح، مثل روسيا وألمانيا، وفرنسا وأميركا.

ومن أهم أسباب العشوائية المالية، الإدارات المالية والاقتصادية السيئة، التي لا تعبأ بتبعات الاعتماد على الديون المحلية والخارجية، لتمويل الإنفاق العام، أو اعتماد سياسة تدوير الديون، لتمرير فترات زمنية معينة، دون النظر للأعباء المترتبة على هذه السياسة، من ترحيل عبء الديون إلى الأجيال القادمة.

نتائج وخيمة

العشوائية سلوك مذموم في أي مجال من مجالات الحياة، فما بالنا في شأن الدول، فالجميع يعلم أن تجاوز الدين العام لسقف 60% من الناتج المحلي الإجمالي، مؤشر خطر، سيؤدي إلى شل يد صانع السياسة الاقتصادية، بسبب التداعيات السلبية لأعباء الدين، فبدلًا من توجيه الإنفاق لتحسين التعليم والبحث العلمي، وكذلك الاهتمام بالرعاية الصحية، أو البنية الأساسية، نجد أعباء الدين احتلت المرتبة الأولى، في أولويات الإنفاق العام.

أميركا الدولة الأولى عالميًا، سياسيًا واقتصاديًا، تشهد حالة من الارتباك السياسي والاقتصادي بسبب الديون، واحتمالات عدم سداد التزاماتها، حيث بلغت ديون الحكومة المركزية الأميركية نسبة أكبر من 120% من ناتجها المحلي الإجمالي.

وكذلك الحال في مصر، حيث أصبح اقتصاد البلاد يدور في فلك التداعيات السلبية لأعباء الدين العام، وبخاصة الديون الخارجية، فالمصانع لا تعمل بكامل طاقتها، بسبب عدم توفر العملات الأجنبية لاستيراد مستلزمات الإنتاج، وتعيش الحكومة حالة من الاضطرار للاقتراض بأعلى معدل فائدة بالسوق الدولية، بسبب ارتفاع تكاليف التأمين على الدين العام، وكذلك التصنيفات المتراجعة من قبل وكالات التصنيف للاقتصاد المصري، وللجهاز المصرفي بمصر.

الخلاصة أنه لن يكون هناك حل للدول المتقدمة أو النامية أو الصاعدة، التي تعاني من عشوائية مالية، إلا بإعمال قواعد الضبط المالية، من خلال المؤسسات الرقابية، وعلى رأسها البرلمانات، وكذلك المجتمع المدني، ومحاسبة الحكومات عبر صناديق الانتخابات.

ولعل واجب الوقت الآن، ليس التماهي مع سلوك الحكومات العشوائي في الشأن المالي، ولكن مطالبة تلك الحكومات، بوضع الحوكمة والشفافية، ومحاربة الفساد موضع التنفيذ، بحيث لا يستثنى منها أي مستوى سياسي بالدولة. وكذلك مطالبة الحكومات، بوضع جداول زمنية لمعالجة قضية الدين العام، ولعل حالة اليونان تمثل نموذجا يجب الاستفادة منه بهذا الصدد.