يتعامل السيسي قائد الانقلاب العسكري بمصر بمنطق غريب فيما يتعلق بالاقتصاد المصري، وبخاصة في مجال الطاقة، وهو مجال شديد الحساسية بالنسبة للأمن القومي، فضلًا عن التكلفة المالية التي لا تراعي حالة مصر كدولة تعاني من دينها العام الذي تجاوز 125% من الناتج المحلي الإجمالي في يونيو 2017.
فأثناء زيارة السيسي للصين-سبتمبر 2018-، أُعلن عن توقيع عقد يقوم بموجبه تحالف شركات صينية ببناء محطة طاقة تعمل بالفحم في مصر، وتنفيذ أعمال الهندسة والبناء وتوريد المعدات. وأن تكلفة المشروع تصل إلى 4 مليارات و400 مليون دولار، كما أن فترة التنفيذ ستستغرق 6 سنوات.
ومن قبل أُعلن في مايو 2018 عن توقيع وزارة الإنتاج الحربي المصرية مذكرة تفاهم مع مجموعة ( G C L) الصينية لإنشاء مجمع صناعى لإنتاج ألواح الطاقة الشمسية بقدرة خمسة جيجاوات سنوياً وباستثمارات تصل إلى مليارين و200 مليون دولار. وأن تمويل المشروع سيتم عبر مؤسسات مالية صينية.
وإذا كانت الصين سوف تحتكر تكنولوجيا توليد الطاقة في مصر في مجال الطاقة الشمسية وطاقة الفحم، فروسيا سوف تقوم بنفس الدور بإقامة محطات الطاقة النووية بمنطقة الضبعة بمصر كما أعلن خلال عام 2017، وبتكلفة تزيد عن 25 مليار دولار، وأن التمويل سيكون في صورة قرض روسي لمصر.
وعقب الانقلاب العسكري في يوليو 2013، كانت المانيا أول من غض الطرف عن جريمة الانقلاب العسكري بمصر، ورحبت بالسيسي على أراضيها، من أجل فوز شركة سيمنس بإقامة محطات كهرباء بتكلفة تصل إلى 10 مليارات دولار.
ما يقوم به السيسي ومسئولو حكوماته، هو أنهم يتخيلون أنهم يديرون محلًا تجاريًا، وأن دورهم مجرد شراء وبيع السلع، ولا تتوفر لديهم رؤية ولا سياسات ولا برامج لإقامة تنمية في مصر، فما تم في ملف الطاقة، ومن خلال المنشور في وسائل الإعلام عن الصفقات التي تمت، والتي أشرنا إلى بعضها في السطور الماضية، تكرس لنظام “تسليم مفتاح” بشأن مشروعات الطاقة.
فالصين في مشروعات الفحم والطاقة الشمسية، ستقوم بتوفير التمويل، وإقامة المنشآت، وتوريد خطوط الإنتاج، ثم تدريب اليد العاملة المصرية.. وبذلك تضمن الشركات الصينية فرص عمل لمواطنيها لفترات تتراوح ما بين عامين و6 أعوام، وكذلك توريد خطوط الإنتاج مع بداية التشغيل، ثم توريد قطع الغيار أثناء التشغيل.
ونفس الشئ تم في محطات كهرباء شركة سيمنس، ومن باب أولى ستفعل ذلك روسيا إذا ما قدر لها اتمام مشروع إقامة محطات الطاقة النووية في منطقة الضبعة بمصر، فمصر مع طيها لملف الطاقة النووية في عهد مبارك 1986، غير مؤهلة بطبيعة الحال لإنتاج مكونات محطات الطاقة النووية، فضلًا عن مستلزمات التشغيل أو قطاع الغيار.
لم نلمس وجود أي دور للمؤسسات العلمية المصرية، سواء الجامعات أو مراكز البحوث التي مضى على وجودها أكثر من 6 عقود، وهي بمثابة مفرخة للعلماء والباحثين الذين يجدون طريقهم لدول أوربا وأمريكا، بعد حصولهم على درجات الماجستير والدكتوراة.
مصر ليس دول الخليج، فلديها موارد بشرية باستطاعتها في ظل مشروع للتنمية، أن تؤمن لمصر درجة عالية من الاستقلالية في مجالات الطاقة، كما أن مصر ليست دول الخليج في توفير الملاءة المالية لاستيراد مؤسسات توليد الطاقة بنظام “تسليم مفتاح”، فمصر تعاني من أزمة تمويلية خانقة، يبرهن عليها تصاعد قيمة الدين العام وتبعاته من أقساط وفوائد.
ولا يعدو الأمر أكثر من حرص النظام العسكري بمصر بقيادة السيسي، على أن يقدم مؤهلات اعتماده لتلك الدول عبر تلك الصفقات، التي تجعلها تغض الطرف عن ممارسات الانقلاب من قتل واعتقال وفساد.
في نفس المجال فرط قائد الانقلاب العسكري بمقدرات مصر من الموارد الطبيعية بحقول الغاز الطبيعي، سواء في حقل غرب الدلتا، والذي تنازل فيه عن حصة مصر بالكامل لصالح الشركة البريطانية للغاز، مقابل أن يشتري كامل إنتاج الحقل بسعر 5 دولارات ونصف الدولار للمليون وحدة حرارية، وهو ما أهدر على مصر نحو 100 مليار دولار حسب تقديرات بعض الخبراء.
وما تم في حقل ظهر، من التنازل لصالح قبرص و”الكيان الصهيوني” من ملكية جزء من حصة مصر في هذه المنطقة، عبر اتفاقية إعادة ترسيم الحدود، أو الاتفاقية التي فازت بها شركة “ايني” الإيطالية بحقوق الاستكشاف والإنتاج، بما جعلها تستحوذ على نسبة عالية من عوائد الحقل، وبقيت مصر بمثابة المتفرج على ما تقوم به الشركة الإيطالية ببيع حصص في ملكية الحقل لشركات روسية وقطرية وإماراتية، نظير الحصول على عمولات زهيدة لا تتعدى 50 مليون دولار.
ستبقى مصر لسنوات أسيرة ممارسات شركات الطاقة التي ستقوم على أمر إنشاء محطات توليد الطاقة، وسينحصر دور مصر فقط في الدفع لتكلفة الإنشاء وشراء خطوط الإنتاج وقطع الغيار، وستظل التكنولوجيا حبيسة أدراج الشركات الأجنبية.
والمشكلة الأكبر في عدم إدراك القائمين على ملف الطاقة بمصر، هو قضية التقادم التكنولوجي الذي يحدث بمعدلات عالية في ظل التقدم العلمي، فقد تسمح تلك الدول بنقل التكنولوجيا لمصر بعد نحو 6 سنوات، وهي الفترة اللازمة لإقامة المشروعات، ولكن خلال هذه الفترة ستكون هناك تكنولوجيا جديدة، أفضل من حيث الإنتاج، وأكثر أمنًا ومحافظة على البيئة.. وهو الأمر الذي كان يستلزم أن تشترط الحكومة المصرية بشراكة تكنولوجيا منذ اليوم الأول للمشروع، لتوفر الكوادر المصرية اللازمة لنقل التكنولوجيا، وتطويرها فيما بعد.