مثلت ثورات الربيع العربي منذ انطلاق الثورة التونسية نهاية 2010، وما بعدها، سقفًا عاليًا لطموح الشعوب، للسيطرة على مقدراتها الاقتصادية، والسعي نحو مشروع تنموي، يضمن عدالة توزيع الثروات داخل المجتمعات، ويقضي على التخلف والفساد والمحسوبية، والتبعية للخارج.
إلا أن الثورات المضادة التي تبنتها الدولة العميقة داخل كل دولة من دول ثورات الربيع، بمساندة قوية من العسكر، وكذلك بدعم دول الخليج، وبخاصة السعودية والإمارات، أدت إلى تنحية الحكومات المنتخبة في ظل انتخابات حرة ونزيهة للمرة الأولى في تاريخ دول ثورات الربيع العربي، (تونس، مصر، ليبيا، اليمن)، مما أدى إلى النتائج السلبية التي رصدتها بعد التقديرات الغربية.
وإذا كان السيسي، قائد الانقلاب العسكري، ذكر مؤخرًا أن الدول العربية (سورية، واليمن، وليبيا، والعراق) تعرضت لخسائر اقتصادية بسبب ما شهدته من ثورات منذ عام 2011 بنحو 900 مليار دولار في البنية الأساسية، و1.4 مليون قتيل، ونحو 15 مليون لاجئ. فإنه لم يتحدث عما أنفق من قبل دول الخليج لإخماد الثورات العربية، سواء كان بشكل خفي أو معلن، فضلًا عن ضياع فرصة التنمية التي كانت تحلم بها الشعوب العربية.
في مصر أهدر العسكر في الفترة الانتقالية الأولى (فبراير 2011 – يونيو 2012) نحو 22 مليار دولار من احتياطي النقد الأجنبي من خلال الإصرار على تبني سياسات اقتصادية خاطئة بشأن سعر الصرف، فضلًا عن تأمين الأوضاع القانونية للفاسدين من رجال مبارك ومسؤولي الدولة في عهده، مما أهدر فرصة إعادة أموالهم المهربة إلى الخارج، وكذلك استرداد ما حصلوا عليه بدون وجه حق خلال ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن.
لقد فات السيسي أو الأحرى أنه تعمَّد أن يتحدث عن حجم إنفاق السعودية والإمارات في الحرب على اليمن، والتي قدرتها بعض المصادر الأميركية بنحو 750 مليار دولار خلال الشهور الست الأولى، أي بنهاية سبتمبر 2015، وإن كان البعض يذهب إلى أن هذه التكلفة تقدر بنحو 1.5 تريليون دولار بنهاية 2017. فقد كان بمقدور الإمارات والسعودية أن تمهدا للحلول السياسية في اليمن، لا إشعال حرب، لم يجن الشعب اليمني منها سوى القتل والتهجير والجوع، بينما تبحث السعودية والإمارات الآن عن مخرج سياسي، بعد أن عرضتا المنطقة لنزاع لا طائل من ورائه.
بعد أن كانت طموحات دول ثورات الربيع العربي، محاربة الفقر، والخروج من دائرة الديون، والاستفادة من طاقات الشباب، تحول الأمر في ظل الثورات المضادة، حيث أصبحت تلك الدول ضمن أفسد 10 دول على مستوى العالم (اليمن، وليبيا، والعراق) وإن كانت مصر وتونس خارج دائرة أفسد 10 دول على مستوى العالم، إلا أن معدلات الفساد بهما في تزايد، ولا يظهر بحجمه الحقيقي، لقدرة النظام بهما على عدم إظهار الفساد، والمداراة عليه، ورعايته، بل أصبح النظام في هاتين الدولتين يدير إظهار جرائم الفساد في ضوء منظومته لإدارة البلد، فبين الفينة والأخرى تخرج قضية فساد لبعض المسؤولين، لتتم محاسبتهم، وكأن النظام يكافح الفساد، في حين أن هؤلاء المسؤولين الفاسدين من اختيار تلك النظم.
لنا أن نتخيل أن دولة مثل مصر، عاد إليها من أبنائها بعد ثورة 25 يناير نحو 3 ملايين مهاجر، لينخفض عدد المهاجرين إلى 6 ملايين في عام 2012، بعد أن كان 9 ملايين في 2010، وهؤلاء العائدون أتوا برؤوس أموالهم وطموحهم في النهوض بالاقتصاد المصري، لكن بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013، ارتفع منحنى المهاجرين المصريين مرة أخرى، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، والمناخ العام، ليصل عدد المهاجرين مرة أخرى إلى 9.1 ملايين نسمة في 2017.
وليبيا التي كانت تمتلك احتياطي نقد أجنبي يزيد عن 100 مليار دولار، انخفض في نهاية 2017 إلى 44.6 مليار دولار، ويتوقع أن يشهد المزيد من التراجع إن لم يكن النفاد خلال 2018، بسبب الصراع المسلح، الذي تديره بعض دول المنطقة ودول أجنبية هناك، فضلًا عن تجميد أموال الصندوق السيادي الليبي الذي يضم نحو 67 مليار دولار، ولاتزال أمواله مجمدة من قبل المنظمات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن بسبب عدم استقرار الوضع السياسي والأمني ووجود حكومة واحدة في ليبيا.
واليمن الذي يعاني من الفقر على مدار عقود، بسبب فساد نظامه السياسي، يتعرض مواطنوه لمجاعات وسوء تغذية فضلًا عن زيادة أعداد النازحين والمهاجرين، والمصابين والقتلى، وضيعت فرصة إعادة بناء اليمن بيد أبنائه.
الديكتاتوريات العربية ومعها العسكر تسببت في إهدار فرصة الديمقراطية، وما يصاحبها من تنمية، فبعد أن كانت دول الربيع العربي محط أنظار مستثمرين جدد من الخارج، سواء من أبنائها أو من العرب والأجانب، أصبحت المنطقة العربية طاردة للاستثمار، بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني، وكذلك توغُّل الفساد، وتحكُّم عصابات للاحتكار في تسيير أمور التجارة والاستثمار بدول الربيع العربي.
فالقضاء على ثورات الربيع العربي بواسطة الديكتاتوريات وإعادة الاستعمار العسكري مرة أخرى إلى دول المنطقة بشكل سافر، فروسيا وإيران تتمركزان في سورية، كما أن دولاً خليجية (السعودية والإمارات) تمهدان لوجود دائم في اليمن، والعراق تتوغل فيه إيران منذ فترة، ولا يزال الاحتلال الأميركي يمسك بزمام الأمور، وإن رحلت قواته العسكرية بشكل كبير.
ومن شأن وجود قوات احتلال عسكرية أجنبية في دول ثورات الربيع العربي، أن يؤثر على مقدراتها الاقتصادية، فمشاركة هذه القوات الأجنبية في دعم الديكتاتوريات العربية ليس من قبيل التطوع أو الحرب بلا ثمن، فقد تمت السيطرة على مناطق إستراتيجية لإقامة قواعد عسكرية، إدارة موانئ في أماكن حيوية، تحكم في مسارات التجارة الإقليمية والدولية، مما أفقد دول ثورات الربيع من السيطرة على سيادتها ومقدراتها الطبيعية، وأن يكون لها نصيب من المشاركة في التجارة والاقتصاد العالمي.
لا يجد المواطن العربي في دول ثورات الربيع العربي ما يدفعه للتفاؤل، حيث أطبقت الديكتاتوريات العربية بمساعدة مخططات إقليمية ودولية على مسارات الحياة السياسية الطبيعية، وأصبح المواطن بين أمرين أحلاهما مر، أما البقاء للعيش في ظل الديكتاتوريات بما تعنيه من ضياع للعمر والمقدرات الاقتصادية والمالية، وغياب حقوق الإنسان، وغياب مشروعات حقيقية للتنمية، أو الهجرة التي لم تعد متاحة إلا في ظل اللجوء وما يعتريه من فقدان للهوية والدين.
فالثورات العربية بريئة من إهدار الثروات الاقتصادية، ومن هدم البنى الأساسية، أو القتل أو التهجير، فهي على عكس ذلك تمامًا لأنها قامت من أجل الإنسان، واعتمدته رأسمالها الأول للبناء، بينما الثورات المضادة والديكتاتوريات العربية تخلو أجندتها تمامًا من الحسابات الإنسانية، الدم عندها لا ثمن له، والإنسان آخر ما يمكن أن يكون له اعتبار.
فالنظم غير الديمقراطية، لا تؤمن بالمحاسبة من قبل شعوبها، ولا تسمح للأفراد أو المؤسسات بالرقابة على أعمالها، ولا أدل على ذلك من أن جميع الدول العربية تأتي في ذيل القائمة المعنية بشفافية الموازنة، حيث يغيب الإفصاح عن الإيرادات والنفقات، ولا يشارك المواطن العربي في توظيف الإنفاق، أو ممارسة الرقابة.