تمثل الأرقام الخاصة بالدين العام في مصر أحد المؤشرات التي تحاول الحكومة المصرية التقليل من شأنها من خلال نسبتها للناتج المحلي الإجمالي، وكأن هناك تحسناً في هذه العلاقة من خلال القفزات التي تتحقق في الناتج ومعدلات نموه.
وهذا الأداء لحكومة مصر مدون في الإصدارات الحكومية، ومنها مثلاً التقرير المالي الشهري لوزارة المالية عن شهر ديسمبر/ كانون الأول 2018، والذي ذكر في الصفحة (ز)، أن الدين العام المصري (المحلي والخارجي) بلغ 3.74 تريليونات جنيه، وبما يعادل نسبة 108% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2017. وزاد الدين في يونيو/ حزيران 2018 ليصل إلى 4.31 تريليونات جنيه، وبما يعادل نسبة 97.2% من الناتج المحلي.
إلا أن البيانات الأخرى الصادرة عن جهات إقليمية تظهر الدين المصري على حقيقته، وبما يخالف الأرقام والنسب التي تعلنها الحكومة، فقد صدر أخيرًا التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2018 عن صندوق النقد العربي، والذي أشار في الصفحة 123 إلى أن الدين العام المصري بلغ 351.8 مليار دولار (ما يعادل 6.2 تريليونات جنيه، بسعر صرف 17.85 جنيها للدولار) عام 2017، وأن نسبة الدين تبلغ 180% من الناتج المحلي الإجمالي.
وبذلك فإن مصر، حسب بيانات التقرير الاقتصادي الموحد، تحتل المرتبة الأولى من حيث المديونية العامة بين الدول العربية، خاصة بين أكبر 7 دول عربية مدينة، وتمثل مديونية مصر نسبة 53.4% من إجمالي مديونية الدول السبع (الأردن، تونس، السودان، لبنان، المغرب، مصر، موريتانيا)، والبالغة قيمتها 658.4 مليار دولار، واحتلال مصر للمرتبة الأولى في المديونية العربية يأتي على صعيد قيمة الدين ومؤشر نسبة الدين من الناتج.
الفجوة الكبيرة التي نلمسها بين بيانات الحكومة المصرية وتلك التي تنشرها مصادر أخرى، ومنها التقرير الاقتصادي العربي الموحد، تمثل صدمة للمتابع للشأن الاقتصادي في مصر، سواء على مستوى قرار المستثمر، أو الباحث الأكاديمي. فعلى صعيد المستثمرين، تتمثل الصدمة الأولى في عدم مصداقية البيانات الاقتصادية للحكومة، وانكشاف الوضع المالي لمصر، ووصول الدين العام لمعدلات غير مسبوقة، تفرض تحدياتها على الموازنة العامة للدولة.
وكذلك تكشف أن ما أعلن من إصلاحات اقتصادية، لم ينعكس إيجابيًا على المؤشرات الاقتصادية الكلية، بل إن النتائج السلبية تتمثل في مزيد من حرمان المواطن المصري من الاستفادة من الإنفاق العام، والذي تذهب منه نسبة كبيرة لخدمة الدين، فوفق بيانات الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2018/ 2019، بلغت أعباء خدمة الدين (الفوائد والأقساط) 82% من إجمالي الإيرادات العامة للدولة في العام نفسه.
أما على الصعيد الأكاديمي، فعلى الرغم من الجانب الكمي والمتابعة في ما يصدر عن البنك المركزي ووزارة المالية من بيانات اقتصادية، إلا أن مثل هذا الأداء الحكومي يجعل الباحث يطمئن أكثر إلى البيانات التي تصدر من جهات أجنبية عن الاقتصاد المصري، وهذا يطعن في مصداقية الدولة ككل، بل يعطي مؤشراً سلبياً لدى معدي الدراسات عن السوق والاقتصاد المصريين.
تبقى المشكلة لدى صانعي السياسات المالية والاقتصادية في مصر، في أن الدين العام (المحلي + الخارجي) مستمر، وبمعدلات كبيرة، ولن تجدي معه السياسات المالية الموجودة حاليًا، من حيث الاستمرار في الاستدانة عبر أذون الخزانة والسندات في الداخل، أو الاستدانة عبر سوق المال الدولية أو المؤسسات المالية الإقليمية والدولية.
فضلًا عن أن وظيف الديون في حد ذاته، لا يزال يعتمد على سد الفجوة في الموازنة العامة، والتي تقدر بنحو 38 مليار دولار، حسب بيانات الموازنة العامة لعام 2018/ 2019، حيث سيتم تدبير ما يعادل 28 مليار دولار من السوق المحلية، ونحو 10 مليارات من السوق الدولية.
وما لم تتجه هذه الديون إلى نشاط إنتاجي أو خدمي يمكن أن يحقق قيمة مضافة للاقتصاد المصري، ويحسن من هيكل الناتج المحلي الإجمالي، وبخاصة في قطاعي الزراعة والصناعة، فإن مصر ستعيش أزمة مالية حادة خلال السنوات القادمة، بسبب ارتفاع قيمة دينها العام، وكذلك ارتفاع نسبته للناتج المحلي الإجمالي.
تفتقد الحكومة المصرية بشكل عام لوجود برنامج يتعامل بجدية مع قضية الدين العام، فما يتم فقط هو بمثابة عملية تدوير للديون، والاستمرار في المزيد من الديون، فحينما يحل تاريخ سداد الدين، تقوم الحكومة بإصدار أذون وسندات جديدة، لتسدد الديون القديمة، أو تعمل على تحويل بعض الأذون التي هي بطبيعتها قصيرة الأجل إلى سندات، لتكون آجالها في الاستدانة أطول.
كما أن البحث عن دائن أجنبي ليحل محل الدائن المحلي، ليس حلًا لأزمة الدين في مصر، فبعد تحرير سعر الصرف، استهدفت الحكومة استقدام مستثمرين أجانب لشراء أو الاستثمار في الدين الحكومي، وقد تحقق للحكومة في هذا المجال نحو 23 مليار دولار، عندما كان سعر الفائدة يلامس نسبة 20%، وهو سعر يعد من أعلى معدلات الفائدة في العالم.
وطبيعة استثمارات الأجانب بالديون الحكومية أنها أموال ساخنة، وتهرب عندما تجد فرصة أفضل من خلال سعر الفائدة الأعلى، وهو ما تحقق بالفعل وخرج نحو 14 مليار دولار من هذه الاستثمارات من مصر، بل كانت من بين أسباب تراجع احتياطي النقد الأجنبي في ديسمبر 2018 إلى نحو 42 مليار دولار، بعدما كان حوالي 44 مليار دولار.
وحينما خرج الأجانب من الاستثمار في الدين العام المحلي، لجأت الحكومة لاستخدام الجهاز المصرفي بمكونيه (المحلي والأجنبي) لتستمر ماكينة ضخ الأموال لتمويل عجز الموازنة، وبما يؤثر على قدرة هذه البنوك على تمويل الاستثمارات الإنتاجية أو الخدمية للقطاع الخاص، الذي بإمكانه توفير فرص عمل، أو تحقيق قيمة مضافة تنعكس على الناتج المحلي الإجمالي.
وتبقى أزمة الحكومة المصرية في أنها لم تستطع تحقيق نجاح ملموس في ملف الاستثمارات الأجنبية المباشرة، لتكون مصدرًا يساعد على سد فجوة التمويل، فهذه الاستثمارات تشهد تراجعًا خلال الأعوام الماضية، هذه واحدة، والأمر الثاني، أن نسبة تقترب من 70% من هذه الاستثمارات تأتي في مجال استخراج النفط والغاز، وهي استثمارات ذات قيمة مضافة ضعيفة، كما أن الجزء الأكبر منها يعود للخارج، سواء في شكل استرداد قيمة هذه الاستثمارات، أو النسب الكبيرة التي تحصل عليها الشركات نتيجة استخراجها للنفط أو الغاز.
ظلت الحكومة المصرية تعلق العديد من مشكلاتها على الخارج، ومن بين هذه المشكلات الديون العامة، فيصرح بعض المسؤولين بأن ارتفاع الديون العامة ظاهرة عالمية، تخص الدول المتقدمة والنامية، ولكن يتم تجاهل العديد من المعالجات التي تقوم بها الدول المدينة، عبر ما يسمى الحماية الاجتماعية أو الاستمرار في برامج الدعم، بينما الحكومة تسير عكس ذلك تمامًا، حيث تعمل على تلاشي مخصصات الدعم في الموازنة العامة، عامًا بعد عام، ولا توفر الحماية الاجتماعية للشريحة الكبيرة من المجتمع.
ويبقى التحدي المستمر في وجه الحكومة، هو تقديمها لبرنامج يستهدف تخفيض قيمة الدين العام وسداد شرائح منه، ليكون عند المعدلات المقبولة عالميًا بأن يكون بحدود 60% من الناتج المحلي الاجمالي.