شهد المجتمع المصري، طوال السنوات الماضية، ظواهر اجتماعية شديدة السلبية، إلا أنها أصبحت جزءًا من مكوناته، ويتعامل معها وكأنها في إطارها الصحيح، من هذه الظواهر تراجع مستوى التعليم في المؤسسات التعليمية العامة، وانتشار ظاهرة الدروس الخصوصية.
وكان من المفترض، أن ينهض المجتمع ليمارس دوره لإصلاح التعليم، ومواجهة ظاهرة الدروس. فالمؤسسات التعليمية العامة ملك للشعب، وهو من يتحمل كافة أعبائها المالية من خلال دفع الضرائب وتمويل الموازنة العامة، لكن في ضوء ظاهرة سلبية أخرى، وهي السلوك الانسحابي من المجال العام، وقوقعة كل فرد حول ذاته ونفسه، أن ذهبت كل أسرة في حل مشكلاتها في التعليم من خلال محيطها الضيق، فماذا فعلت؟
القادرون ذهبوا بأبنائهم إلى المدارس الخاصة، والفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة وجدوا حلًا في الدروس الخصوصية، وتحولت المدارس بالفعل إلى مجرد منظم لإدارة الامتحانات في مواعيدها الدورية، واستخراج الشهادات.
وأدى ذلك إلى ظهور قضية شديدة الخطورة، وهي ضعف مستوى خريجي المؤسسات التعليمية في مصر بشكل عام، وأصبح الخريجون غير مؤهلين لسوق العمل، ووجدوا أنفسهم مطالبين بإنفاق جديد، يتمثل في الحصول على دورات تدريبية، يمكن من خلالها تأهيلهم لسوق العمل، سواء فيما يتعلق بمهارات العمل في تخصصاتهم المختلفة، أو في اكتساب لغات أجنبية.
ومع الوقت، لم تعد ظاهرة تراجع مستوى التعليم في مصر قاصرة على المؤسسات العامة، ولكنها نالت مؤسسات القطاع الخاص كذلك. ومن عجب أن ظاهرة الدروس الخصوصية، لم تعد قاصرة على مرحلة دراسية بعينها، كما كان من قبل، ولكنها تشمل كافة المراحل التعليمية، بما فيها المرحلة الجامعية.
المفترض أن الدولة رصدت في موازنتها العامة من المخصصات ما يكفي للعملية التعليمية بجميع مكوناتها، فحسب بيانات البيان المالي لعام 2021/2022، فإن مخصصات التعليم بلغت 172.6 مليار جنيه (ما يعادل 11 مليار دولار تقريبًا).
وحسب تقرير التنمية البشرية لمصر الصادر عن وزارة التخطيط والتنمية البشرية، فإن الإنفاق الحكومي على التعليم كنسبة من إجمالي الإنفاق الحكومي بلغ 10.7% خلال الفترة 2010/2011 إلى 2019/2020
كما بلغ الإنفاق على التعليم خلال هذه الفترة في المتوسط 3.2% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وهي معدلات تقل عن المتوسطات العالمية، حيث يبلغ المتوسط العالمي للإنفاق على التعليم كنسبة من الإنفاق الحكومي 14.3%، وكذلك تبلغ نسبة الإنفاق على التعليم كنسبة من الناتج كمتوسط عالمي 4.5%.
ما سبق هو مخصصات ميزانية الدولة، ولكن الأسر المصرية، مع كل عام دراسي، تواجهها أعباء جديدة، وتقوم بإعداد ميزانيات موازية، تبدأ من الزي المدرسي، ومصروفات المدارس، هذه نفقات لمرة واحدة لكل عام، بينما الدروس الخصوصية هي مشكلة الأسر، حيث تستعد لتدبير نفقات تلك الدروس بداية من الروضة وحتى الجامعة.
وتختلف التقديرات بشأن إنفاق الأسرة على الدروس الخصوصية، ففي الوقت الذي يذهب إليه تقدير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في يوليو 2019، أن ما تم إنفاقه على الدروس والمجموعات المدرسية بحدود 47 مليار جنيه، وأن إجمالي إنفاق الأسر على التعليم بشكل عام يمثل 37.7% من الإنفاق الكلي على التعليم في مصر.
ثمة تقدير آخر، يُنسب لوزير التعليم طارق شوقي، بأن الدروس الخصوصية كلفت الأسر 25 مليار جنيه سنويًا، ولعل تقدير الوزير لم يتضمن المجموعات المدرسية، باعتبارها نشاطًا معتمدًا من قبل الحكومة، بخلاف تلك الدروس، التي تقوم الحكومة على فترات مختلفة بمهاجمتها، سواء في المقرات المختلفة المخصصة لذلك، أو بالقبض أحيانًا على المدرسين الذين يمارسون هذا النشاط.
في البداية، كانت قضية الزي المدرسي تخص المدارس الخاصة، وكان متروكا للمدارس العامة أن يختار أولياء الأمور لأبنائهم ما يشاؤون من ملابس مدرسية، وكان الأمر يعطيهم مساحة من الحرية، والتدبير الاقتصادي، لتكون ملابس المدارس هي نفسها الملابس التي يرتديها الطلاب خارج البيوت في حياتهم اليومية.
لكن المدارس الحكومية بدأت في زيادة الأعباء على أولياء الأمور، ليكون الزي الموحد ملزمًا لجميع الطلاب. والغريب، أنه قد يتم تغييره كل عام، لتزداد المشقة على أولياء الأمور، الذين يمكنهم المحافظة على ملابس أولادهم ليقضوا بها أكثر من عام دراسي، أو استخدام ملابس أشقائهم الأكبر سنًا، والذين يسبقونهم في المراحل التعليمية المختلفة.
كذلك كانت الدروس الخصوصية في بدايتها، محدودة الأثر والممارسة، بحيث كانت لمن يحتاجها، وكانت في مواد دراسية محدودة، تختلف من طالب لآخر، ولكن مع الوقت تحولت بالفعل إلى مرض، ساعد على انتشاره ضعف أداء التعليم في المدارس، وكذلك الثقافة السلبية لأولياء الأمور.
ظاهرة الدروس الخصوصية لا تقتصر على المؤسسات التعليمية الحكومية بمراحلها المختلفة، ولا منشآت التعليم في القطاع الخاص، ولكنها تغلغلت حتى وصلت إلى المدارس الدولية، التي تدرّس المناهج الإنكليزية والأميركية، ومن على شاكلتهما، بل والجامعات الخاصة كذلك.
تحت وطأة هذه الضغوط، يذهب الجانب الأكبر من الأسر المصرية إلى وسائل مختلفة لمواجهة مصروفات التعليم، سواء لمتطلبات الزي المدرسي، أو الرسوم الدراسية، أو الدروس الخصوصية، فهناك من يقوم باقتطاع جزء ثابت من دخله الشهري، بحيث يتوفر له ما يلزمه من إنفاق، سواء كان بشكل فردي، أو من خلال ما يعرف في المجتمع بـ "الجمعية".
وقد يلجأ البعض إلى الاقتراض من المؤسسات التي يعملون فيها، خاصة الجهات الحكومية، أو القطاع الخاص المنظم، حيث يتيح لهم ذلك الحصول على قروض بأسعار فائدة مخفضة من خلال بنك ناصر الاجتماعي. ومؤخرًا دخل القطاع المصرفي التجاري من خلال أنشطة التجزئة، ليوفر قروضا لمواجهة مصروفات الدراسة.
وهناك مصدر آخر، ولكنه محدود، أو غير مرصود بشكل جيد، يتمثل في قيام بعض الجمعيات الخيرية ورجال الأعمال، بدفع الرسوم الدراسية للطلاب الفقراء، أو المساهمة في توفير الملابس المدرسية لهم. وقد لوحظ مؤخرًا نشاط للجمعيات الخيرية، تدعو المواطنين إلى التبرع للمساعدة في توفير ملابس وحقاب مدرسية للطلاب الفقراء، أو مساعدتهم في دفع المصروفات المدرسية.
على الرغم من أن المشكلة قائمة منذ سنوات، وتم تناولها بالنقاش من قبل البرلمانات المختلفة، وأصبحت مادة موسمية في وسائل الإعلام المختلفة، إلا أنها في تزايد مستمر، ولم تلق أي خطة أو استراتيجية للحل، سواء من قبل الحكومة، أو المجتمع المدني، وأصبح السلوك السائد في المجتمع، هو التعايش مع المشكلة، لا حلها.
ومن عجب أن السيسي، حينما تناول التعليم وقضاياه في أكثر من مرة، ركز على فكرة تعليم نوعي لفئة محدودة، وقال مقولته المشهورة "يعمل إيه التعليم في وطن ضايع"، وهو ما يعني أن قضية التعليم برمّتها تغيب عن اهتمام رأس النظام.
وزاد الطين بلة، أن الحكومة في ضوء الإجراءات التقشفية، منذ انقلاب يوليو 2013 وحتى الآن، اتجهت لزيادة الرسوم المدرسية لكافة المراحل المختلفة، لتتراوح ما بين 200 جنيه و500 جنيه، وهو ما يمكن اعتباره زيادة بنسبة تصل إلى 400% تقريبًا في بعض المراحل الدراسية.
في الختام، هل يمكن أن يسعى المجتمع المدني، لتكون قضية التعليم في مصر قضية قومية، بحيث يحصل المصريون على تعليم جيد، وبتكاليف لا ترهق الأسر؟