– ملامح الخطاب التخويفي
– تحسن المؤشرات الاقتصادية
– لم كان التخويف؟
منذ ثورة 25 يناير، والوضع الاقتصادي في مصر مثار قلق للجميع ومبعثه يأتي من عدة جهات، على رأسها الخطاب التخويفي حول احتياطي النقد الأجنبي، وكذلك حالة التراجع الأمني، وعدم تحقيق خطوات بارزة تعكس آمال المصريين في تحول اقتصادي يحقق العدالة الاجتماعية ويغير الواقع الاقتصادي والاجتماعي لمعيشة الفقراء والطبقة المتوسطة.
ومع ذلك نجد أن مؤشرات اقتصادية كلية حققت نتائج إيجابية لم تكن متوقعة، وهو ما يثير العديد من الاستفسارات حول المعطيات السابقة. هل الخطاب التخويفي كان مبالغا فيه من قبل المجلس العسكري، وهل الوضع الأمني يدار بطريقة تعمل على توصيل رسائل سياسية معينة ولكنها لا تؤثر على الوضع الاقتصادي الكلي، وهل هناك عوامل أخرى غير مرئية أدت إلى حراك اقتصادي لا ترصده الإحصاءات الرسمية؟
"
أرقام احتياطي النقد الأجنبي تحسنت وخالفت توقعات مسؤول الشؤون المالية بالمجلس العسكري. وقد ساعد على هذا التحسن ارتفاع تحويلات المصريين بالخارج إلى معدلات قياسية لم تتحقق من قبل
"
ويمكن رصد هذه الآلية من خلال تصريحات مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية اللواء محمود نصر.
– في مايو/أيار 2011 أعلن اللواء نصر أن معدل الفقر في مصر ارتفع وأنه يقترب من نسبة 70% من السكان، من بينهم نسبة 6% معدم. ويعد هذا التصريح الفريد من نوعه عن تقديرات نسبة الفقر في مصر، فأقصى تقدير هو 43% من السكان تحت خط الفقر بحجم إنفاق دولارين في اليوم، أما نسبة 70% فهي نسبة مبالغ فيها، ولم تحدد المعايير أو أي خط فقر حسبت هذه النسبة في إطاره.
– احتياطي النقد الأجنبي كان أبرز أدوات الخطاب التخويفي، ففي مطلع ديسمبر/كانون الأول 2011 صرح نصر بأن احتياطي النقد الأجنبي سوف يصل في نهاية يناير/كانون الثاني 2012 إلى نحو 15 مليار دولار، وهو مبلغ لا يكفي سوى واردات ثلاثة أشهر فقط. غير أن الواقع المعيش من خلال بيانات البنك المركزي المصري، فالاحتياطي من النقد الأجنبي بلغ 15.1 مليار دولار في نهاية مارس/آذار الماضي.
والملاحظ أن معدلات انخفاض الاحتياطي آخذة في التراجع، فبعد مسلسل انخفاض الاحتياطي بنحو ملياري دولار على مدار الفترة من مارس/أذار إلى ديسمبر/كانون الأول 2011، انخفض الاحتياطي في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي بنحو 1.7 مليار، ثم في نهاية فبراير/شباط الماضي انخفض الاحتياطي بنحو سبعمائة مليون دولار، وفي نهاية مارس/آذار انخفض الاحتياطي بنحو ستمائة مليون دولار.
ومن خلال هذه الأرقام يتبين لنا أن أرقام احتياطي النقد الأجنبي قد تحسنت وخالفت توقعات مسؤول الشؤون المالية بالمجلس العسكري، وقد ساعد على هذا التحسن ارتفاع تحويلات المصريين بالخارج إلى معدلات قياسية لم تتحقق من قبل فوصلت إلى 14 مليار دولار مع نهاية 2011، كما تجاوزت أعداد السائحين لمصر حاجز المليون سائح شهريًا على مدار شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2011.
إلا أن اللواء نصر عاد في نهاية مارس/آذار الماضي وحذر من أن احتياطي النقد الأجنبي في مصر سوف يصل إلى 10.7 مليارات دولار في أول يوليو/تموز المقبل. يأتي هذا في حين أن التوقعات تشير إلى أن احتياطي النقد الأجنبي يتراجع -في ضوء معدلات فبراير/شباط ومارس/آذار الماضيين- بنحو ستمائة مليون دولار شهريا.
وبذلك سيبلغ الاحتياطي نحو 13.2 مليار دولار في يوليو/تموز المقبل في أسوأ التقديرات، وبفرض أن موارد مصر الدولارية لم تشهد زيادات خلال الأشهر الثلاثة القادمة.
– أيضًا أشار اللواء نصر إلى أن عجز الموازنة العامة للعام المالي الحالي 2011/2012 سوف يرتفع إلى 9.4% بدلاً من العجز المقدر بالموازنة في حدود 8.6%، ولكن يلاحظ أن الحكومة الحالية لم تبذل أي مجهود يذكر في ترشيد الإنفاق العام، على الرغم من صدور مرسوم من المجلس العسكري بالحد الأقصى للأجور.
كما أن الصناديق الخاصة لا زالت مرتعا لكافة صور الفساد، ولم تتخذ خطوات تتعلق بتعديل لوائح هذه الصناديق بما يحسن من الوضع المالي للموازنة، وكان الأمر الثالث المهم هو أن الحكومة قد أعلنت عن إلغاء الدعم المقدم للصناعات كثيفة استخدام الطاقة، وهو ما لم يحدث حتى الآن، فضلا عن التوسع في التعيينات بالوظائف الحكومية، وآخرها إعلان الحكومة عن تعيين أربعمائة ألف عامل يعملون بعقود مؤقتة على ميزانيات الصناديق الخاصة. ومن هنا فالعجز بالموازنة العامة للدولة يمكن تخفيضه بمعدلات مقبولة لا تتجاوز المعدلات المستهدفة بالموازنة.
"
لم يكن متوقعًا تحسن أداء الصادرات في العام الأول للثورة المصرية، في ظل الإضرابات العمالية والمطالب الفئوية، ولكن إحصاءات حكومية أفادت بتحقق زيادة في الصادرات بلغت نحو 19% مقارنة بعام 2010
"
1. ارتفاع حصيلة الضرائب:
وفق ما نشرته جريدة الأهرام في نهاية مارس/آذار الماضي، صرح رئيس مصلحة الضرائب بأن معدلات تقديم الإقرارات والحصيلة المسددة مع الإقرارات حققت زيادة تصل إلى 15%، بالمقارنة بمثيلتها عن العام الماضي.
ويعد هذا التصريح مفندًا للنسب المعلنة عن عجز الموازنة، فهذه الزيادة تمثل إضافة إلى الإيرادات العامة. كما أرجع رئيس المصلحة هذه الزيادة في الإيرادات الضريبية إلى زيادة الأرباح لدى دافعي الضرائب، وهو ما يجعل المتابع والمدقق للشأن الاقتصادي المصري يرتاب في الأرقام المعلنة عن تراجع أداء الاقتصاد المصري، سواء تلك المتعلقة بحجم الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات نموه، أو عجز الموازنة، أو نسب الفقر، أو البطالة.
2. زيادة حجم الصادرات:
لم يكن متوقعًا تحسن أداء الصادرات في العام الأول للثورة المصرية التي أطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك، في ظل الإضرابات العمالية والمطالب الفئوية، ولكن إحصاءات وزارة التجارة والصناعة المصرية التي أعلنت عبر موقعها أفادت بتحقق زيادة في الصادرات بلغت نحو 19% مقارنة بعام 2010.
فوصلت الصادرات إلى 130.7 مليار جنيه مصري مقارنة بـ110.2 مليارات جنيه في عام 2010، والمتحقق في عام 2011 فاق المستهدف لنفس العام بنحو 20.5 مليار جنيه. ولم تكن الزيادة في الصادرات المصرية قاصرة على جهة واحدة ولكنها شملت أقاليم عدة، فصادرات مصر مع الاتحاد الأوروبي زادت بنحو 23%، وإلى أميركا ودول آسيا بدون الدول العربية، زادت الصادرات المصرية بنسبة 16% لكلا الإقليمين.
وزادت صادرات مصر للدول العربية بنحو 12%، وللدول الأفريقية غير العربية زادت الصادرات المصرية بنسبة 57%. مع ملاحظة أن الصادرات المصرية مع ليبيا تراجعت بنسبة كبيرة بلغت نحو 52%، ويعود هذا التراجع إلى أحداث الثورة الليبية، وعدم تأمين وصول الصادرات في ظل أحداث الثورة الليبية.
3. زيادة تحويلات العاملين بالخارج:
بلغت تحويلات العاملين المصريين بالخارج في 2011 نحو 14 مليار دولار، بعد أن كانت في أحسن الأحوال تصل إلى 9.7 مليارات دولار، ومن شأن هذه التحويلات أن تحافظ على انتعاش الطلب الداخلي، وعدم دخول الاقتصاد المصري في حالة ركود.
وينظر إلى وجود نحو سبعة ملايين من العمالة المصرية في الخارج بأنه يلعب دورا هاما لدعم الاقتصاد المصري من خلال قيام المغتربين بتمويل أسرهم الصغيرة أو الكبيرة، وهذا ما يعني أن نحو 35 مليون مصري لم تتأثر معدلات استهلاكهم وحجم إنفاقهم في السوق المحلية -باعتبار أن كل مهاجر لديه أسرة في مصر مكونة من خمسة أفراد- إن لم تكن قد زادت معدلات الاستهلاك نتيجة زيادة التحويلات التي رصدتها إحصاءات البنك المركزي المصري.
4. زيادة عدد السياح:
تشير بيانات النشرة الاقتصادية لشهر فبراير/شباط الماضي للبنك المركزي المصري إلى أن عدد السائحين في شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني كان على التوالي 1.07 مليون سائح و1.01 مليون سائح، وهي معدلات تقترب من أداء ديسمبر/كانون الأول 2010 قبل ثورة 25 يناير.
ويتوقع أن تظهر بيانات ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني معدلات أداء أفضل بسبب أن هذه الأشهر تستقبل السياحة الشتوية للأوروبيين.
5. اتساع رقعة القطاع غير المنظم:
في ظل غياب أجهزة الدولة الرقابية اتسعت رقعة الأنشطة الخاصة بالقطاع غير المنظم في مصر، وهو أمر ملحوظ على حركة الباعة الجائلين، وهو الأمر الذي قد تكون له جوانب سلبية، من مخالفة النظام العام، وإعاقة الطرق، إلا أنها تتيح العديد من فرص العمل للشباب والعاطلين، وتحسن من دخولهم، ويفرض هذا الأمر تحديًا على صانع القرار مستقبلا من حيث الحفاظ على فرص العمل لهؤلاء العاملين بهذا القطاع، في نفس الوقت الذي لا يمثل فيه مخالفة للقوانين ونظم ممارسة النشاط الاقتصادي.
"
استهدف الخطاب الاقتصادي التخويفي عموم الشعب المصري من أجل ثنيه عن الاستجابة لدعاوى الإضراب أو الإصرار على محاسبة رموز الفساد من عهد مبارك، وقبول دعاوى المصالحة
"
وبعد كل ما سبق من معطيات وإحصاءات فإن الاقتصاد المصري ليس في موقف حرج كما حرص المسؤولون -وخاصة العسكريين منهم- على إبرازه، الأمر الذي يمكن اعتباره أنه جاء في سياق حمل رسائل سياسية بالدرجة الأولى إلى الشعب المصري وبخاصة الشباب، من أجل خفض سقف مطالبهم بالإصلاح وإعادة تشكيل دولاب إدارة الدولة، بما يحقق مطالب الثورة الرئيسية (عيش-حرية-عدالة اجتماعية).
وعلى الجانب الآخر استهدف الخطاب الاقتصادي التخويفي عموم الشعب المصري من أجل ثنيه عن الاستجابة لدعاوى الإضراب أو الإصرار على محاسبة رموز الفساد من عهد مبارك، وقبول دعاوى المصالحة نظير المال وعدم اللجوء للقضاء ومعاقبة الفاسدين بالسجن.
ولكن لا يعني هذا أن الاقتصاد المصري على ما يرام، وأن مشكلات قد حُلت، ولكن يعني فقط أن بعض التقديرات لم تكن صحيحة، وأن ادعاء البعض من أن مصر في طريقها للإفلاس في غير محله.
ويحتاج الأمر سرعة إنجاز الأعمال السياسية من انتخابات الرئاسة والمحليات وتسليم السلطة في الميعاد المحدد من الجيش إلى السلطة المدنية