في حين أن القاعدة الأصيلة في فكر الإخوان هي المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، وما ينبني عليها من سياسات وبرامج، تختلف من مكان لآخر، ومن زمان لآخر، حسب احتياجات الفرد والمجتمع، دون أن يُصبغ هذا التوجه بالاشتراكية أو الرأسمالية. إن قضية العدالة الاجتماعية لدى الإخوان ليست وليدة صراع طبقي، أو حقد على الأغنياء، أو رغبة في احتكار الثروات، ولكن مبعثها هو: نظرية الحق في العيش الكريم، الذي يتجلى في الحفاظ على النفس والعقل والدين والعرض والمال.
الأمر الثاني، الذي انطلق منه، هو تخيله ماذا لو وصل الإخوان في الخمسينيات والستينيات إلى الحكم، وأنهم كانوا سيختارون الاشتراكية، بدلاً من النيوليبرالية التي اتبعوها إبان حكم مرسي.. وهذا مردود عليه من عدة أوجه، وأنت الباحث الماهر، هل كانت مساهمة الدكتور مصطفى السباعي -التي ضربتها مثلا- هي المعبرة عن توجهات الإخوان كجماعة؟ أم هي مساهمة علمية من عالمٍ متخصص، أراد أن يدلي بدلوه في واقع تنتشر فيه ثقافة اشتراكية؟ فكما كان هناك مساهمة الدكتور السباعي -رحمه الله- كانت هناك مساهمات أخرى تحمل عنوان "لا اشتراكية في الإسلام"، ومثل آخر، كتابي الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- الذي بيَّن فيهما تفرد الإسلام كمنهج حياة عن باقي النظم السائدة من رأسمالية واشتراكية، وهما كتاب "الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية"، وكتاب "الإسلام والمناهج الاشتراكية".
هل كان انحياز الدكتور مرسي للغارمين من الفلاحين وإعفاؤهم من الديون نهجًا ليبراليًا؟ هل كان قبول الدكتور مرسي بتعيين 450 ألف عامل مؤقت في أروقة الحكومة، وتحويلهم إلى العمالة الدائمة، نهجًا ليبراليًا؟
وطبعًا تعلم مساهمات الشهيد عبد القادر عودة في كتابيه "الإسلام وأوضاعنا السياسية" و"الإسلام وأوضاعنا القانونية"، وقد يكون ذلك في الخمسينيات والستينيات، ولكنكم عاصرتم مساهمة الدكتور توفيق الشاوي في موسوعته الضخمة بعنوان "فقه الشورى والاستشارة" الذي صدر في التسعينيات. ويكفي هذا، حتى لا أسترسل في نماذج المساهمات الفكرية والعلمية التي ساهم بها علماء، معلوم عنهم انتماؤهم الفكري والحركي للإخوان، لأن المهم في هذه المسألة أن لا يُتخذ إصدار هنا أو هناك دليلا، أحدد من خلاله وجهة الإخوان في تبني سياسات تتعلق بأوضاع الناس الحياتية في الاجتماع والسياسة وغيرها.
أما الحكم على أن الإخوان تبنوا نهجًا "نيوليبراليًا" إبان حكم الرئيس مرسي -رحمه الله- فأنا أستغرب كيف توصلتَ لهذا الحكم المطلق؟ هل كان إعلان الدكتور محمد مرسي من مجمع الحديد والصلب بوقف الخصخصة، وإصلاح القطاع العام، نهجًا نيوليبراليًا؟ هل كانت الإستراتيجية التي أعلن عنها الدكتور محمد مرسي لتحقيق التنمية الذاتية (سنتتج غذاءنا، ودواءنا، وسلاحنا) نهجًا نيوليبراليًا؟ وهل كان انحياز الدكتور مرسي للغارمين من الفلاحين وإعفاؤهم من الديون، نهجًا ليبراليًا؟ هل كان قبول الدكتور مرسي بتعيين 450 ألف عامل مؤقت في أروقة الحكومة، وتحويلهم إلى العمالة الدائمة، نهجًا ليبراليًا؟ هل كان انحياز الدكتور مرسي للمرأة المعيلة، وتوفير تأمين صحي مجانًا لها، أو زيادة عدد الأسرة المستفيدة من معاش الضمان الاجتماعي، ورفع قيمة المعاش، نهجًا نيوليبراليًا؟
هل كان المطلوب مصادرة أموال الناس، والعودة بهم إلى تأميم الممتلكات؟ كنت أود أن تأخذ في الاعتبار السياق الزمني وأنت تكتب هذا المقال، وكذلك الأحداث التي ألمت بالتجربة، قبل أن تنحاز لأحكام أطلقها باحثون يفتقدون إلى الحياد العلمي. إن إستراتيجية الإخوان في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية إبان فترة الدكتور مرسي، كانت مختلفة تمامًا عما يكال لها من اتهامات، كنا نركز على مشروع كبير للتنمية الذاتية في مصر، يعتمد على وجود الدولة في المشروعات الاقتصادية والخدمية، وفق قواعد سليمة، وفي نفس الوقت نعمل على بناء قطاع خاص قادر على المنافسة، ويعمل في بيئة قانونية، بعيدًا عن الفساد. أكتب هذا وأنا قريب من التجربة، فقد كنت أحد المساهمين في إعداد برنامج حزب الحرية والعدالة، ورئيسًا للجنته الاقتصادية، وحاضرًا للعديد من الأحداث الاقتصادية المهمة التي مرت بها مصر في تلك الفترة، ولا يتسع المقام لتناول الأمور بالتفصيل.
هل اختار الإخوان، منذ سقوط مبارك، وحتى الانقلاب العسكري، سوى الديمقراطية؟ كيف وصل الإخوان إلى الحكم إذن؟ من الذي سن قانون انتخابات يسمح بإعلان النتائج في اللجان الفرعية، ويمكِّن الناس من الشفافية، واحترام اختيارتهم؟
أيضًا انطلقت في مقالك من رؤيتك أن "المسألة الاجتماعية باتت من أهم أولويات المواطن العربي، متقدمة على موضوعات أخرى، اكتسبت أولوية في السنوات الماضية، مثل قضايا الهوية". وهنا لا بد من أن نفرق بين أن نجعل من قضية الهوية مجالًا للفرقة وتفتيت نسيج المجتمع، وأن نعلم أن الفهم الصحيح للمسألة الاجتماعية لا بد أن يكون مرتبطا بالهوية. وإلا فكيف نتصرف في قضايا مثل الملكية وتوزيع الثروة، وعمل السلطة، ما لم أكن قد حسمت قضية الهوية. وعرض المسألة بالصورة التي عرضتها في مقالك، تمكِّن رؤية فصل الدين عن حياة الناس، ولا داعي لاستراجاع ما دار بيني وبينك من حوار حول قضية العلاقة بين الدين والهوية.
وأحسب أن قضية الهوية بعد ثورة يناير 2011 تم استدعاؤها من قبل بعض النخب لإثارة البلبلة، ولتعطيل أن تمضي مصر في مسار الإصلاح، الذي تقدّمه الإسلاميون.
أيضًا من الأحكام المطلقة في مقالك أن الإخوان لم يدركوا طبيعة ثورة يناير 2011، وأنهم لم يدركوا أن قضيتي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية أهم من قضية الهوية (الشريعة). وأنا أسألك: هل اختار الإخوان، منذ سقوط مبارك، وحتى الانقلاب العسكري، سوى الديمقراطية؟ كيف وصل الإخوان إلى الحكم إذن؟ من الذي سن قانون انتخابات يسمح بإعلان النتائج في اللجان الفرعية، ويمكِّن الناس من الشفافية، واحترام اختيارتهم؟
وقضية العدالة الاجتماعية، لا بد للناس أن يعوا مكوناتها الرئيسية، حتى لا تكون حكرًا على تصور حركات عمالية، أو أحزاب يسارية، أو مطعنا في الخصوم السياسيين، فثمة مكونات ثلاثة للعدالة الاجتماعية، وهي: إتاحة الفرص للجميع، والتمكين من ذلك، واستدامته طوال الوقت. فهل كان في أدبيات الإخوان أو ممارستهم ما يعطل أركان العدالة الاجتماعية؟ على العكس، مكنت ممارسات الإخوان المسلمين عددا لا بأس به من أبناء الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، من خلال ممارسة العمل العام، والاشتباك مع الواقع الاجتماعي، بدءًا من الاتحادات الطلابية، والنقابات، والمجالس المحلية، والبرلمان، حتى رئاسة الجمهورية.
بل كان من أهم الأسباب التي أدت إلى أن شريحة من القضاة تعادي الإخوان المسلمين، وتنحاز للدولة العميقة، أن الإخوان رتبوا طريقة اختيار الملتحقين الجدد في سلك النيابة بعيدًا عن الوساطة والمحسوبية، وجعلوا التقديم والاختيار بناء على قواعد واضحة، تتم بطريقة إلكترونية، وبعيدة عن التدخلات من قبل أي جهة. وهناك الكثير من الأمثلة التي يمكن أن تعكس رؤية الإخوان الواضحة للديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولن أسترسل في الأمثلة، ولكني أختم هذه النقطة، بسؤالك، وأنت المعني بقضايا النقابات منذ أن تعارفنا في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، متى فاز اليسار وممثلو التيارات الأخرى في انتخابات نقابة الأطباء، سواء في النقابة العامة، أو في نقابة الأطباء بالإسكندرية؟ ألم يكن ذلك في السنة التي حكم فيها الرئيس الراحل محمد مرسي؟
فيما يتعلق بالخطاب الدعوي، أختلف معك فيما تذهب إليه، وتتفق فيه مع غيرك من الكتَّاب الذين تستشهد بهم، وهي أن تفرض على الإخوان طريقة تفكير ونمط ممارسة، في حين أنك تعلم أن منطلقات ومعالجات الإخوان تختلف عن غيرهم، بحكم مرجعيتهم الإسلامية. فالإسلام لا يعرف الطبقات، والنظر إلى المجتمع في ضوء الصراع التاريخي أو الطبقي؛ ولكن نظرة الإخوان حددتها أدبياتهم، ومن أبرزها كتاب الشيخ محمد الغزالي "الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية"، حيث انتقد فكرة الطبقية لما تمثله من تشويه فكري، واعتمد مؤشر الدرجات، التي تحترم جهد الناس وإمكانياتهم. ومن هنا يمكن تحليل الخطاب الدعوي الإخواني على أنه ارتكز على قواعد إسلامية غير قابلة للتأويل، وهي: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"، وحتى لا أطيل، فإن رؤية الإخوان للمسألة الاجتماعية تأتي في إطار فهمهم الشامل للإسلام، وأن من تقعد به إمكانياته وقدراته من الأفراد يتكفل له المجتمع باستكمال حاجاته، ليحيا حياة حرة كريمة، عبر دور الدولة في الحماية الاجتماعية، ومساهمات المجتمع الأهلي، من حقوق ذوي القربى، والزكاة، والوقف، والصدقات، وغير ذلك. فإذا كان خطاب الإخوان الدعوي يعمل على إهدار قيمة الطبقية، كمفهوم مشوه، فهذا يحسب لهم، فليس دور الإخوان أن يقرؤوا واقع مجتمعاتهم عبر التسويق لمفاهيم وممارسات خاطئة.
وهناك ملاحظة مهمة، في ختامك لتحليل الخطاب الدعوي باعتباره إحدى ركائز رؤيتك للمسألة الاجتماعية لدى الإخوان، حيث ذكرت: "… إلا أنه في نفس الوقت جعلها تفشل في التعبير عن قاعدتها الانتخابية التي تركزت أساسًا في الطبقتين الوسطى والدنيا، مما أفقدها شعبيتها إبان حكم مرسي القصير". ووجهة نظري أن هذا حكم مطلق كان يحتاج منك إلى تأنٍ، واستدلال. وتبنيك لهذه النتيجة يهمل كافة ما بُذل في مجالات عدة، من أطراف أخرى للوصول للانقلاب العسكري. فأنا أفهم الوصول إلى نتيجة فقدان الإخوان شعبيتهم، من خلال انتخابات حرة ونزيهة. وكان بإمكانك القول بتراجع شعبية الإخوان، أما الحكم بفقدان الإخوان شعبيتهم في الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، إبان حكم مرسي، فهو نتيجة يشوبها عدم الدقة.
وفيما يتعلق بما سميته بالخطاب "الأخلاقوي" ذكرت "فبالخطاب الأخلاقوي تتجاوز أو تهدر الحديث عن البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بل والثقافية التي تنتج الفقر والتمايز والتناقضات الطبقية في المجتمع"، أحسب أن قراءتكم كانت تحتاج إلى الاعتماد على دراسة منصفة، أو تحليل لسلوك ممارسة الإخوان، وأسألك ما سبب اضطهاد جماعة الإخوان منذ نشأتها والصدام مع السلطة الحاكمة، بداية من الملك فاروق، ومرورًا بعبد الناصر والسادات، ومبارك، وانتهاء بالسيسي، سوى أنهم تبنوا سياسات اجتماعية وسياسية واقتصادية مغايرة؟ (يتبع)
أما قراءة العمل الخيري على أنه كان في إطار صفقة غير مكتوبة، فهذا اتهام لا يقوم عليه دليل، بل كانت الحكومات المتعاقبة تحد من ممارسات الإخوان في العمل الخيري من خلال مصادرة أموال الجمعيات، والتدخل في تشكيل مجالس إداراتها، واعتقال القائمين عليها. قد يكون نظام مبارك سمح بوجود العمل الخيري في حدود هامش معين؛ ولكنه لم يكن قط في إطار صفقة. ومن جانب آخر، هل تناسيت أن هذا العمل الخيري يأتي في إطار الفرائض الإسلامية، والحقوق والواجبات، التي لا مناص من القيام بها؟ هل كان مطلوب من الإخوان أن يمسكوا عن الناس زكواتهم وصدقاتهم، أو يطلبوا من باقي القادرين بالمجتمع أن يقوموا بالامتناع عن دفع الزكاة والصدقة كورقة ضغط على الحكومة؟
وفيما يتعلق بالزكاة تحديدًا والحديث عنها بهذه الصورة، أرى أن الرؤية التي تبنيتها متأثرة برؤية تيار اليسار، الذي ينظر للزكاة على أنها من أعمال الإحسان التي لا تقوم عليها المجتمعات. والحقيقة أن جوهر فكر الإخوان المسلمين وممارستهم أن الزكاة هي إحدى أدوات السياسة المالية، وأنها واجب الدولة، ومن خلالها تقوم الدولة بواجبها في قضية الحماية الاجتماعية.. ولا يعني ذلك أنها الأداة الوحيدة لإصلاح حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية، بل الزكاة تأتي ضمن منظومة من العمل والإنتاج لكافة مكونات المجتمع، بما فيها الدولة.
والفكرة الإسلامية لا تعاني من ضعف في المسألة الاجتماعية، لا من حيث المفهوم، ولا من حيث الممارسة، وليس من عوامل تقوية الفكرة الإسلامية في المسألة الاجتماعية أن تلتحم مع ما سميته "اليسار الإسلامي"، فأهم ما ميَّز الفكرة الإسلامية منذ نشأتها هو وضوح رؤيتها الاجتماعية؛ لقد استنكر البعض على الإخوان أنهم يعتمدون مبدأ الحقوق والواجبات في الشأن العام، وغير مرة كان رفض الإخوان للسكوت عن مميزات لأشخاض أو فئات لا يستحقونها، سببًا في التنكيل بهم.
أما مسألة العلاقة بين الفرد والتنظيم ، وقولك: "التنظيم المقدس المفارق لعضويته". فالفرد في الإخوان حر، والتنظيم ليس مقدسًا، في إطار تجربتي الشخصية التي امتدت لنحو 40 عامًا في صفوف الجماعة، -وأنت خير من يعلم دلالة المصطلح- فالمقدس هو المنزه عن الخطأ، والإخوان يعلمون ويعلِّمون أفرادهم والناس أجمعين حديث النبي صلى الله عليه وسلك "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"، وقول مالك بن أنس -رضي الله عنه- : "كل إنسان يؤخذ منه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم".
ومن غير المعقول التوصل لحكم أن الإخوان فضلوا الخيار النيوليبرالي، الذي يطلق العنان لحرية الفرد، وليس الإخوان كذلك، ودور التربية في ممارسة الإخوان ليس تكبيل الأفراد، بل انطلاقهم في جنبات المجتمع، وهذا ما جنى الإخوان ثماره من خلال التأكيد على أن الفكر السائد في الجماعة هو أن الإخوان مشروع وفكرة، أكبر منه تنظيم وجماعة، لذلك انتشرت أهم مقومات فكر جماعة الإخوان المسلمين في المجتمع، وهي: أن الإسلام دين شامل ينتظم كل مناحي الحياة، وأن الأمة الإسلامية أمة واحدة، وأن شمول الفكرة لا يعني شمول الحركة، فالإسلام يسع الأمة بكل مكوناتها. فلم يكن هناك قيد على حركة الأفراد، وانصهارهم في المجتمع، وتفاعلهم مع قضاياه، وإن كانت هناك ممارسات خاطئة فهي تعبر عن شخوص أصحابها، ولا تعبر عن فكر الجماعة أو ممارساتها.
وفي إطار تجربتي الشخصية، قدم الإخوان برنامجا حزبيا في عام 2007، وتعرض للأخذ والرد، وتم تقديم برنامج حزب الحرية والعدالة بعد ثورة 25 يناير، وبه الكثير مما طالب به الأستاذ هشام، وغيره من كتَّاب اليسار، ولكن البعض يقرؤه حسب وجهه نظرهم، كما فعل أصحاب مصطلحات "رأس المال الضائع" أو "النيوليبرالية الورعة".
ولا يغيب عن فطنة أخي الأستاذ هشام أن السياسات الخاصة بأي فصيل سياسي تبقى مجردة إلى أن يصل إلى السلطة، ليكون على علم بأدق مكونات الواقع، وكم من السياسات التي أُعلن عنها من قبل أحزاب وقوى سياسية طرحت قبل تمكنهم من السلطة، وانقلبت رأسًا على عقب فور وصولهم للسلطة، أو وجود أحداث طارئة قد تلجئهم لتبني سياسات ضد هويتهم؛ ونموذج أحزاب اليسار في اليونان عقب الأزمة المالية في 2010 خير مثال على ذلك، وكذلك تصرف الحكومة الأميركية لبوش الابن عقب الأزمة المالية العالمية، حيث أتت تصرفات حكومته لمعالجة الأزمة المالية العالمية في عام 2008 ضد كل قواعد الرأسمالية.
ووصف أيديولوجية الإخوان بأنها برغماتية ينقصه فهم طبيعة المرجعية الإسلامية، التي تقوم على مصالح المجتمع، فقد يكون من صالح المجتمع في وقت ما إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص، وقد يكون من المناسب في زمن آخر إعطاء مساحة أكبر للقطاع العام، وقد يكون الخيار الأمثل الجمع بين مساهمة القطاع العام والخاص، وإعادة توزيع الثروة وتخصيص الموارد. لقد كانت الثقافة الإسلامية سابقة في هذا الأمر، من خلال ما فعله سيدنا عمر من تخصيص مرعى في المدينة لإبل الفقراء، ومنع إبل ابن عفان وابن عوف، وغيرهما من أغنياء المدينة، من الاقتراب من هذا المرعى، وعلى ذلك بنى الإخوان رؤيتهم الاقتصادية والاجتماعية، القائمة على مرونة السياسات لتحقيق مصالح المجتمع. فهل كان سيدنا عمر اشتراكيًا؟
وأحسب -على غير ما تذهب إليه من تأييد لما كتبه الآخرون- أن الإخوان اختبروا في المحليات التي فازوا بها في عام 1992، وقدموا ممارسات تعبر عن وعيهم التام بالمسألة الاجتماعية، وكذلك في النقابات التي كنت تسميها أنت في بداية عملنا البحثي "منافذ الإصلاح"، كيف عملت النقابات التي أدارها الإخوان على خدمة أعضائها مهنيًا واجتماعيًا، بل المساهمة في الهم والشأن العام.
أما سبق الممارسة عن الرؤية في عمل الإخوان فهو توصيف يحتاج إلى مراجعة، لأنه يعتبر الإخوان كما لو كانوا هم من أنشؤوا مؤسسات المجتمع التي يعملون من خلالها، أو أنهم هم واضعو قوانين باقي المؤسسات التي تضبط حركة وعمل المجتمع. والأمر الآخر أن العلوم الاجتماعية وتطورها تأتي في جزء منها في إطار رصد الواقع ودراسته، والتأصيل لها، وكثير من الأوضاع قبلها الإخوان في إطار المنهج الإصلاح التدريجي الممتد، وليس الصدام مع المؤسسات والمجتمع.
وفيما يخص العنصر الخامس لرؤيتكم لتفسير فهم الإخوان للمسألة الاجتماعية، والذي عنونتموه بـ"غلبة الاحتجاجي" على تقديم السياسات، فأذكركم بحوارنا في عام 2013، وقبل الانقلاب بشهر، في ندوة جمعية الصعيد في العين السخنة، والتي قدمت فيها مداخلتي تحت عنوان "قراءة في العدالة الاجتماعية عند الإسلاميين: الأستاذ سيد قطب والشيخ محمد أبو زهرة نموذجين" -تذكر- أني عرضت الورقة، ووجدت المداخلات والمناقشات في اتجاه آخر، تتهم الإخوان بأنهم يتبنون النهج النيوليبرالي، فما كان مني إلا أن أخرجت برنامج حزب الحرية والعدالة من حقيبتي، وبينت ما فيه من سياسات تخص العدالة الاجتماعية.
وفي الأخير لا أدعي الصوابية المطلقة لما أرى، وأتمنى مزيدا من التأمل في المسألة في جوانبها المتعددة، وهذا ما أظنه الأقرب لما نتصوره صوابا.
[1] النيوليبرالية: هي فكر أيديولوجي مبني على الحرية الاقتصادية المطلقة، أو تمكين القطاع الخاص وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد.
الرأسمالية: هي نظام اقتصادي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وإنتاج السلع والخدمات من أجل الربح. وتشمل الخصائص الرئيسية للرأسمالية الملكية الخاصة، وتراكم رأس المال، والعمل بأجر، وحرية السوق، والمنافسة الكاملة.
الاشتراكية: مَذهب سياسيّ واِقتصادي قائم على سَيطرة الدّولة على وَسائل الإنتاج والتخطيط الشّامل، والسعي للعدالة الاجتماعية